نظام عرّف بقاءه لأكثر من أربعة عقود على أساس "محور المقاومة" رأى فجأة أعمدة ذلك المحور تنهار واحدًا تلو الآخر، واستثماراته السياسية والعسكرية والمالية بمليارات الدولارات تتبخّر في أقل من عام.
أدق وصف لوضع النظام الإيراني بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) هو ذلك القول القديم: "من جنى على نفسه فلا علاج له".
على مدى أربعة عقود، خصّص النظام الإيراني جزءًا كبيرًا من الموارد الوطنية لإسناد مجموعات وكيلة في المنطقة: حزب الله في لبنان، حماس في غزة، جماعة الحوثيين في اليمن، والميليشيات الشيعية في العراق وسوريا.
ووفقًا لتقارير وزارة الخارجية الأميركية والهيئات الدولية، كان النظام الإيراني يقدّم سنويًا حتى 700 مليون دولار لحزب الله اللبناني وحده. ومجموع هذه النفقات لباقي الجماعات خلال العقدين الماضيين يصل إلى عدة مليارات دولارات.
كان هدف هذه السياسة خلق "عمق استراتيجي" و"رادع إقليمي"، لكن هجوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) ورد الفعل الإسرائيلي العنيف أظهر أن هذا الرادع، أكثر مما كان حقيقيًا، كان مجرد وهم.
على إثر هجوم حماس، شرعت إسرائيل في موجة من العمليات المستهدفة عبر المنطقة. في تلك الهجمات قُتل عشرات القادة البارزين من الجماعات المرتبطة بالنظام الإيراني. استُهدفت البُنى التحتية اللوجستية ومستودعات الصواريخ ومسارات نقل الأسلحة في سوريا والعراق ولبنان. هذه الضربات أضعفت شبكة الوكلاء التابعة للنظام الإيراني بشدة.
حزب الله، الذي عرف لسنوات بأنه "الذراع الإقليمي لخامنئي"، تكبّد ضربات قاصمة وفقد قدرته على القيادة والتنسيق. وفي الوقت نفسه، واجه الحوثيون في اليمن ضغوطًا عسكرية وسياسية متصاعدة، وحماس بعد أشهر من القتال وجدت نفسها عمليًا محاصرة وفي حالة ضعف.
ما كان النظام الإيراني يروّج له بوصفه "قوة ردع محور المقاومة" تحوّل في أقل من عام إلى هيكل متفكك وذي فعالية معدومة.
الخطأ الحسابي.. تكلفة استراتيجية واقتصادية
لم يكن 7 أكتوبر بالنسبة للنظام الإيراني نصرًا، بل أكبر خطأ حسابي في تاريخه. كان النظام يعتقد أنه بدعم هجوم حماس يستطيع جرّ إسرائيل إلى حرب استنزاف، وتعزيز موقعه في العالم الإسلامي، وفي الوقت نفسه الحصول على تنازلات من الغرب.
لكن النتيجة كانت عكس ذلك تمامًا. الردود الإسرائيلية أظهرت أن ادعاء النظام عن "قوة ردع إقليمية" كان فارغًا ودعائيًا.
هاجمت إسرائيل مواقع مرتبطة بالنظام الإيراني، وفي بداية الحرب التي عُرفت باسم "حرب الـ12 يومًا" قُتل عدد من قادة الحرس الثوري ولم تستطع الدفاعات الجوية للنظام أن تقدّم رد فعل فعّالًا.
بعد الهزيمة العسكرية، مني النظام أيضًا بهزيمة دبلوماسية. تصاعدت العقوبات الدولية مجددًا وطُرح جدّيًا في مجلس الأمن الحديث عن تفعيل آلية "الزناد". وفي نهاية المطاف فُعّلت آلية الزناد وعادت عقوبات قاصمة من الأمم المتحدة. تعرضت صادرات إيران النفطية للضغط وزاد هبوط النمو الاقتصادي للبلاد.
وبذلك فقد النظام الإيراني كثيرًا من شرعيته الإقليمية؛ إذ لم يعد "محور المقاومة" يقدم رادعًا ولا يحتفظ بوظيفته النفسية والدعائية السابقة.
شعب إيران دفع التكلفة الحقيقية
كل كلفة هذه الخسائر دفعتها جيوب شعب إيران. الأموال التي كان يمكن أن تُنفق على بناء مدارس ومستشفيات وبنى تحتية داخلية ذهبت إلى صواريخ وأسلحة وجماعات وكيلة.
وكانت النتيجة أن واجه الإيرانيون أزمات اقتصادية غير مسبوقة: انهيار قيمة العملة، تضخّم هائل، تراجع القدرة الشرائية واتساع الفقر. بعبارة أخرى، سياسة "تصدير الثورة" و"المقاومة الإقليمية" تحولت فعليًا إلى "استيراد الفقر". رأس المال الذي كان يجب أن يُستخدم في إعمار إيران أصبح وقودًا لآلة الحرب في بلدان أخرى.
تفكك شبكة الوكلاء يعني أيضًا انهيار أحد أعمدة الدعاية للنظام؛ رواية "القوة التي لا تهزم". حرب الـ12 يومًا بيّنت أن البنية الدفاعية للنظام أكثر فراغًا مما ادّعى.
تمكّنت إسرائيل من تحقيق تفوّق جوي واستخباراتي مطلق من دون مواجهة رادعة جدّية من النظام الإيراني أو حلفائه. الصورة التي شكّلها النظام لنفسه لسنوات تهاوت.
عقيدة "العمق الاستراتيجي" للنظام الإيراني، التي تشكلت منذ زمن قاسم سليماني، انتهت عمليًا مع 7 أكتوبر (تشرين الأول). لا رادع بقي في لبنان، ولا في اليمن، ولا في غزة. وفي المقابل واجهت طهران عزلة سياسية وضغطًا اقتصاديًا جديدًا.
والآن بات النظام الإيراني في موقع لا يستطيع فيه حماية وكلائه، ولا استرداد رأس المال الذي استثمره فيهم. كل ما بناه خلال أربعة عقود أصبح في أقل من عام بلا تأثير.
بداية النهاية بخطأ حسابي
بخطئه الحسابي، لم يخسر النظام الإيراني في المنطقة فحسب، بل أضعف أيضًا قواعد شرعيته وقدرته على الردع داخليًا. اليوم يحق للإيرانيين أن يسألوا: لماذا يجب عليهم أن يدفعوا ثمن طموحات نظامٍ حرمهم من الرفاه والحرية؟ التاريخ سيسجل أن النظام الإيراني بنفسه كتب بداية نهايته؛ ليس بانقلاب، ولا بغزو خارجي، بل بخطأ حسابي اسمه "7 أكتوبر".
من جنى على نفسه فلا علاج له
اليوم، محور المقاومة ليس إلا محور دمار؛ منطقة مليئة بالرماد، وإيران أفقر، وجيل باع مستقبله ليبقى بعض وكلائه الفاشلين على قيد الحياة. كل ما أنفقوه في سوريا ولبنان وغزة تبخّر، لكن ثمنه دفعه شعب إيران. للشعب الحق أن يستعيد مستقبله؛ بالسؤال، بالمشاركة، وبالحوار.