البرنامج النووي الإيراني.. يخدم بقاء النظام ويفاقم معاناة الشعب

بعد خمس جولات من المحادثات، تبدي طهران وواشنطن تفاؤلاً حذرًا، مع تمسك كلٍّ منهما بخط أحمر يدور حول "تخصيب اليورانيوم داخل إيران" من عدمه. لكن يبقى السؤال: هل يستحق البرنامج النووي الثمن الذي دفعه المواطن الإيراني العادي؟
ورغم أن إيران أبدت استعدادًا للتخلص من مخزونها من اليورانيوم عالي التخصيب (HEU) وقبول عمليات تفتيش أكثر شمولاً، فإنها تصرّ على حقها في تخصيب اليورانيوم بنسبة منخفضة (LEU) لأغراض سلمية.
ولكن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يرى أن مجرد وجود هذه القدرة يُبقي لإيران خيارًا نوويًا كامنًا.
ولطالما كان برنامج التخصيب رمزًا للفخر القومي الإيراني، لكنه من الناحية التقنية والاقتصادية، يمثل بنية تحتية مكلفة، متقادمة، ومحدودة الجدوى، أرهقت الاقتصاد والمجتمع الإيراني.
ويتناول هذا التحليل تطوّر البرنامج النووي الإيراني، وموقعه عالميًا، والعبء الذي فرضه على اقتصاد البلاد وشعبها:
فرص ضائعة وتصعيد دائم
بدأ تخصيب اليورانيوم في إيران عام 1987 أثناء الحرب الإيرانية- العراقية، بمساعدة شبكة العالِم النووي الباكستاني، عبد القدير خان، إلا أن جذور البرنامج تعود إلى عهد الشاه في السبعينيات، ضمن مبادرة "الذرة من أجل السلام" التي قادتها الولايات المتحدة.
وتعاونت إيران مع الصين وروسيا، في التسعينيات وخلال العقد الأول من القرن الحالي، لتطوير محطات الطاقة النووية، بينما كانت تبني سرًا منشآت، مثل "نطنز" و"فوردو"، والتي كُشفت لاحقًا أمام الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، سنحت لإيران فرصة للشفافية، لكنها بدلاً من ذلك أخفت منشآتها وعرقلت عمليات التفتيش، دون تقديم مبررات اقتصادية واضحة، مما غذّى الشكوك.
وأفضت سنوات من المفاوضات إلى توقيع الاتفاق النووي (جاكوب) عام 2015، الذي حدّ من نسبة التخصيب، وقلل عدد أجهزة الطرد المركزي، وزاد من رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مقابل تخفيف العقوبات.
وكان الهدف من هذا الاتفاق أيضًا إعادة دمج إيران في الاقتصاد العالمي، لكن المرشد علي خامنئي منع الاستثمارات الأجنبية، ورفض إقامة علاقات أعمق مع واشنطن، رغم دعم الرئيس الإيراني الأسبق، حسن روحاني، للانفتاح المحدود.
وانسحب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خلال فترة ولايته الأولى، من الاتفاق عام 2018، ما أدى إلى انهياره. وردت إيران بالتراجع تدريجيًا عن التزاماتها، ففُرضت العقوبات من جديد.
وعارضت جهات قوية داخل النظام الإيراني، خصوصًا الحرس الثوري، الاتفاق منذ البداية، نظرًا لاستفادته من العقوبات وازدهاره في "بيئة العزلة" و"الاقتصاد المقاوم".
وفي النهاية، تحوّل برنامج التخصيب إلى أداة سياسية، لا استراتيجية طاقة، ورمزًا للفخر يُستخدم على حساب رفاهية الناس.
برنامج متقادم وعديم الكفاءة
يعتمد البرنامج الإيراني بشكل كبير على أجهزة طرد مركزي من طراز "IR-1"، وهي مستندة إلى تصميمات باكستانية منذ سبعينيات القرن الماضي. هذه الأجهزة غير فعالة وعُرضة للأعطال، على عكس المرافق الغربية، التي تستخدم أجهزة متطورة ذات كفاءة عالية.
ورغم سرية الأرقام، فإن التقديرات تشير إلى أن تكلفة التخصيب لكل وحدة عمل فصل (SWU) في إيران تتراوح بين 200 و300 دولار، مقارنة بنحو 40 دولارًا في الدول المتقدمة.
وكذلك يعاني تعدين اليورانيوم الإيراني عدم الكفاءة. فوفقًا لبيانات الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتقارير إيرانية، تبلغ تكلفة إنتاج أكسيد اليورانيوم (U₃O₈) نحو 1750 دولارًا للكيلو غرام، مقارنة بـ 60 دولارًا في كندا.
وأضحى التشبث بالاكتفاء النووي الذاتي- رغم جدواه السياسية- مضرًا بإيران اقتصاديًا.
وما يزيد الطين بلة، هو غياب الطلب المحلي على اليورانيوم المخصب. فمحطة "بوشهر" النووية تعمل بوقود روسي وفق عقد ثابت، ولا يستخدم أي مفاعل إيراني حاليًا اليورانيوم المحلي. ومعظم دول العالم تستورد الوقود النووي ولا تخصّبه محليًا، ما يجعل البرنامج الإيراني غير عقلاني اقتصاديًا، بل مجرد رمز استراتيجي.
العقوبات.. عقد من الألم الاقتصادي
كلّف الموقف النووي الإيراني البلاد ثمنًا باهظًا. فمنذ عام 2011، تسببت العقوبات في انهيار التجارة والاستثمار والنمو الاقتصادي، وانخفضت صادرات النفط من 2.5 مليون برميل يوميًا عام 2011 إلى أقل من 400 ألف برميل خلال الولاية الأولى لترامب. ورغم تعافيها إلى 1.5 مليون برميل في 2024، تبقى أقل بكثير من مستويات ما قبل العقوبات.
وانكمش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لإيران بنسبة 13 في المائة عام 2011، ولم يتعافَ حتى اليوم إلى مستوى نصيب الفرد من الناتج، كما كان عام 2010. فلو استمرت إيران على منحنى نموها قبل 2011 (بمعدل 5.9 في المائة)، لبلغ الناتج عام 2024 نحو 828 مليار دولار؛ أي أكثر من ضعف مستواه الحالي البالغ 400 مليار دولار.
وحتى بعد احتساب صدمات عالمية، كجائحة "كوفيد" وارتفاع أسعار السلع، يُقدَّر الفاقد الناتج عن البرنامج النووي والعقوبات المرتبطة به بين 399 و414 مليار دولار.
وانهارت العُملة الإيرانية من 14.200 ريال مقابل الدولار الواحد عام 2011 إلى أكثر من 818 ألفًا في 2025. وبلغ متوسط التضخم 40 في المائة سنويًا لست سنوات متتالية، كما توقفت الأجور الحقيقية عن النمو، وضُربت الأسر ذات الدخل الثابت، وتعمّقت الفجوة الاجتماعية.
وأدى خروج إيران من نظام "سويفت" المصرفي، ورفضها الامتثال لمعايير مجموعة العمل المالي الدولية "FATF" إلى تعطيل التجارة، بما فيها الواردات الإنسانية، كما أصبح تكوين رأس المال سالبًا، وانهارت قطاعات صناعية بأكملها.
ومن المؤكد أن شعارات "الاقتصاد المقاوم" لا تواسي المواطنين الغارقين في معاناة دائمة.
وأضرّت العقوبات أيضًا بالبنية العلمية والصناعية لإيران؛ حيث تعاني الجامعات هجرة العقول، وتجد المصانع صعوبة في الحصول على قطع الغيار أو البرمجيات أو الشراكات العالمية. وشهدت قطاعات عديدة تراجعًا كبيرًا، من إنتاج السيارات إلى الأدوية.
بقاء النظام لا رفاهية الإيرانيين
أصبح البرنامج النووي الإيراني اليوم يخدم بقاء النظام السياسي، لا رفاهية الشعب؛ إذ يمكّن قيادته من التظاهر بالتحدي، ويدرّ أرباحًا للحرس الثوري من خلال تهريب السلع تحت العقوبات، ويعزز القاعدة الأيديولوجية للدولة في أوقات الاضطراب.
لكن الثمن هائل: هروب رؤوس الأموال، وهجرة العقول، ونزوح الشباب المتعلم. كان يمكن للاستثمار في الطاقة النظيفة والبنية التحتية الرقمية والتجارة العالمية أن يحوّل الاقتصاد الإيراني. وبدلًا من ذلك، أُهدرت الموارد على تكنولوجيا لا جدوى استراتيجية منها، معزولة اقتصاديًا.
فلا يمكن لإيران أن تبني مستقبلها على "المقاومة الرمزية".
والبرنامج كما هو الآن، جلب فائدة ضئيلة مقابل تكلفة باهظة: اقتصاديًا، وسياسيًا، واجتماعيًا. حرم البلاد من التجارة والاستثمار والشرعية الدولية، والأهم من ذلك، رفاهية شعبها.
وانتهت الجولة الخامسة من محادثات إيران والولايات المتحدة دون تقدم، لكن استمرار التواصل يدل على أن الطرفين ما زالا يريان في الاتفاق قيمة.
وبالنسبة لإيران، لم يعد التخصيب يحقق مكاسب استراتيجية أو اقتصادية، بل بات أداة رمزية فقط.
وهناك عدة مقترحات قيد البحث: أحدها يدعو إلى تشكيل "كونسورتيوم" خليجي لمراقبة التخصيب داخل إيران. لا يزال هذا الطرح بدون أسس عملية واضحة، لكنه قد يفتح بابًا للحفاظ على الحق دون التطبيق الكامل.
وهناك مقترح آخر بالاعتراف بحق إيران النظري في التخصيب وفق معاهدة حظر الانتشار، مقابل تجميد النشاط داخليًا.
وثالث يقترح تعويضًا ماليًا مقابل تفكيك المنشآت.
وقد تظهر حلول أكثر إبداعًا لاحقًا، المهم الآن هو تجنب الحرب.
وعلى قادة إيران أن يختاروا بين التحدي المتجذر ودبلوماسية عقلانية تؤسس لمستقبل حقيقي.
لقد كلّف البرنامج النووي إيران أكثر مما تحتمل، ليس فقط في الناتج القومي، بل في حياة ومستقبل أبنائها.
كما أن الكبرياء الرمزي لا يعوّض عن الازدهار الحقيقي، فقد حان وقت التغيير.