"نوفمبر 2019 الدامي".. انتقال من الاحتجاجات الاجتماعية إلى الحركة الثورية

شكّلت أحداث نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 "الدامية" نقطة تحوّل في تاريخ الاحتجاجات الشعبية في إيران؛ حيث وصل فيها صدام النظام مع الشعب إلى نقطةً اللا عودة.

شكّلت أحداث نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 "الدامية" نقطة تحوّل في تاريخ الاحتجاجات الشعبية في إيران؛ حيث وصل فيها صدام النظام مع الشعب إلى نقطةً اللا عودة.
وفي هذه الاحتجاجات، أقدم قادة النظام الإيراني، من أجل بقائهم، على قطع الإنترنت وقتل المواطنين في عشرات المدن، وقمع المتظاهرين بدموية.
ومع القتل الحكومي والتعامل العنيف والدموي تجاه المتظاهرين، إلى جانب الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنووية والبيئية المتعددة، ومع تجاوز المواطنين لرهبة النظام، ربطت الحركات الاجتماعية في إيران بعضها ببعض، وتحولت إلى حركة ثورية.
ومنذ ذلك التاريخ، أصبحت الإطاحة بالنظام مطلبًا لغالبية كبيرة من الشعب الإيراني.
أوسع الاحتجاجات
كانت احتجاجات نوفمبر 2019 من أوسع الاحتجاجات في إيران منذ قيام النظام الإيراني، ومن حيث الامتداد الجغرافي هي الأوسع خلال عقد.
وفي العقدين، اللذين سبقا نوفمبر 2019، كانت معظم الاحتجاجات محصورة في مدينة أو بضع مدن. ففي عقد 1990، اقتصرت احتجاجات الطلاب بعد حادثة حي جامعة طهران على طهران وتبريز، وبقيت الاحتجاجات الشعبية في مشهد وإسلامشهر وقزوين محصورة في تلك المدن. حتى في الحركة الخضراء، رغم المشاركة المليونية في أحداث مثل تظاهرات 15 يونيو (حزيران) 2009، كان نطاق الاحتجاجات مركّزًا بشكل رئيس في طهران وعدد من المدن الكبرى.
وفي احتجاجات يناير (كانون الثاني) 2018، وبحسب المسؤولين الحكوميين، نزل الناس إلى الشوارع في "160 مدينة كبيرة وصغيرة". لكن في نوفمبر 2019 أصبح نطاق الاحتجاجات أوسع؛ فقد سُجّلت التظاهرات في "أكثر من 200 مدينة"، وشهدت 29 محافظة في البلاد انتفاضاتٍ في الشوارع.
تجاوز المواطنين رهبة النظام
يمثل الفاصل الزمني بين احتجاجات نوفمبر 2019 واحتجاجات يناير 2018 تجاوز الشعب الإيراني لرهبة النظام.
وتُعد صناعة الخوف والرهبة من أعمدة آلة القمع لدى النظام الإيراني. ففي الاحتجاجات السابقة، كان النظام يفرض، عبر مزيج من القمع العنيف والدعاية الواسعة، جوًا من الخوف يجعل تكرار الاحتجاجات أمرًا مستحيلًا لعدة سنوات.
وقد تكرر هذا النمط في يناير 2018، لكن بعد 22 شهرًا فقط، أظهرت انتفاضة نوفمبر 2019 أن المجتمع الإيراني تجاوز هذه الدورة من الخوف المصطنع، ولم يعد لها التأثير السابق.
نهوض الحركة الطلابية من رماد القمع
إن دعم الطلاب في عدة جامعات للاحتجاجات الشعبية في نوفمبر 2019 أفشل مشروع النظام لاحتواء الحركة الطلابية وقمعها.
وكانت احتجاجات الطلاب في 17 و18 نوفمبر بجامعة طهران واسعة، لدرجة أن قوات القمع دخلت الجامعة واعتقلت أكثر من 50 طالبًا.
ومع ذلك، وبعد أسابيع قليلة، ومع إسقاط الطائرة الأوكرانية بصواريخ الحرس الثوري، شهدت أكثر من 20 جامعة كبرى في طهران ومدن أخرى احتجاجات طلابية.
فشل مشروع نزع الطابع السياسي
كان أحد المشاريع المحورية للنظام الإيراني، خاصة بعد احتجاجات 2009، هو الترويج لـ "نزع الطابع السياسي" عن المجتمع. وتحركت حكومتا الرئيسين الأسبقين، محمود أحمدي نجاد وحسن روحاني، في الاتجاه نفسه.
وكان هدف هذا المشروع تحويل المجتمع إلى مجتمع غير سياسي وخامل، وتحويل الاحتجاجات إلى حركات "محدودة ومسموح بها"، وتقليص مطالب الناس إلى مطالب ضيقة يمكن إدارتها في إطار المجموعات والفصائل الحكومية.
ولكن احتجاجات يناير 2018، ولاحقًا نوفمبر 2019، كشفت عن فشل هذا المشروع. فقد واجه النظام مجتمعًا شديد التسييس والوعي والاحتجاج، ومطالبه لم تعد تغييراتٍ محدودة.
استعراض قوة الشعب
اعتقد النظام الإيراني، بعد قمع الاحتجاجات الشعبية، في أوائل عقد 2010، أنه لم يعد بحاجة للاعتراف بـ "دور الشعب"، حتى بصورة شكلية. ولذلك امتنع عن تقديم أي تنازل للمجتمع.
ولكن انتفاضة نوفمبر 2019 كانت استعراضًا لـ "قوة الشعب"، لدرجة أنه بعد مرور ست سنوات لم يجرؤ أي مسؤول في النظام الإيراني على رفع أسعار البنزين.
دور النساء والشباب
كان النساء والشباب، الذين تحملوا أكبر قدر من القمع والتمييز في عهد النظام الإيراني، من اللاعبين الرئيسين في احتجاجات نوفمبر 2019.
ورغم أن هذه الاحتجاجات كانت ذات جذور اقتصادية، وأن شرارتها كانت "غلاء البنزين"، فإن مطالبها وشعاراتها اكتسبت بسرعة بُعدًا سياسيًا واجتماعيًا، ولعب النساء والشباب دورًا أساسيًا فيها.
وكان النظام لا يزال يعتقد أنه يمكنه، حتى في عصر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أن يفرض منظومته الأيديولوجية على هؤلاء الفاعلين. لكن احتجاجات نوفمبر 2019، وبعدها انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية" في عام 2022، أظهرت أن غضب النساء والشباب المتراكم من سنوات القمع والتمييز قد تحوّل إلى وقودٍ لنار تحرق أسس النظام الإيراني.
قطع الإنترنت وفشل آلة القمع
بعد قطع الإنترنت في جميع أنحاء البلاد، خلال احتجاجات نوفمبر 2019، قتل النظام الإيراني ما لا يقل عن "1500 شخص" في عملية القمع الدموي.
وهاتان الخطوتان تُظهران فشل آلة القمع للنظام الإيراني، الذي ينفق سنويًا آلاف المليارات من أموال الشعب على الأجهزة الدعائية، والجيش السيبراني، والإذاعة والتلفزيون، ومئات المؤسسات والمراكز الدعائية، لكن "قطع الإنترنت" في نوفمبر 2019 أظهر أن كل هذه الأجهزة عاجزة عن فرض رواية النظام على المواطنين.
كما أن قوات الشرطة والجيش والأمن، رغم الميزانيات الضخمة، لم تكن قادرة على احتواء الاحتجاجات دون عنف، وبقمعها الدموي زادت من فقدان شرعية النظام على مستوى العالم. وكان أحد أهم نتائج احتجاجات نوفمبر 2019 هو نزع الشرعية بالكامل عن النظام الإيراني.
تحول الاحتجاجات الاجتماعية إلى حركة ثورية
حوّلت احتجاجات نوفمبر 2019 أجواء الحركات الاجتماعية في إيران إلى حركة ثورية. فتحوّل شعار "إصلاحي، أصولي، انتهى الأمر" في احتجاجات يناير 2018 إلى شعارٍ شامل "الموت للديكتاتور" والشعارات المعارضة لكامل النظام الإيراني ومسؤوليه وقادته في احتجاجات نوفمبر 2019، وهو ما كان يعبر عن رغبة عامة في إسقاط النظام الإيراني.
وحوّلت احتجاجات نوفمبر 2019 الحركات الاجتماعية والاحتجاجية في إيران إلى حركة ثورية، وحوّلت المطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحدودة إلى مطالب للتغيير البنيوي، وفي نهاية المطاف الإطاحة بالنظام الإيراني.
ومع احتجاجات نوفمبر 2019، أصبح الشرخ بين النظام والشعب الإيراني واسعًا وعميقًا وغير قابل للترميم إلى الحد الذي بلغ نقطة اللاعودة.
وفي خضم هذه الأحداث، طالب المواطنون صراحة بإسقاط النظام الإيراني. واستمرار هذه الأجواء الاحتجاجية واتساعها في سبتمبر (أيلول) 2022 بعد مقتل الشابة الإيرانية، مهسا أميني، في احتجاز دورية شرطة الأخلاق، أدى إلى بروز انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية" التي جعلت من الإطاحة بالنظام الإيراني والتغيير الجذري السياسي والاجتماعي والثقافي مطلبًا عامًا للشعب الإيراني.