لا يزال العدد الدقيق للقتلى، الذين سقطوا على يد عناصر الأمن والشرطة والقوى شبه الرسمية في النظام الإيراني، خلال احتجاجات نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 غير واضح. فقد اعترف النظام بمقتل 225 شخصًا، بينما تحدثت تقارير وتحقيقات مستقلة عن مئات إلى ألف وخمسمائة متظاهر أو أكثر.
وقد اندلعت احتجاجات نوفمبر 2019 على خلفية ارتفاع أسعار البنزين، ومع انتشارها وقمع المحتجين بعنف من قبل النظام، عُرفت هذه الأحداث باسم "نوفمبر 2019 الدامي". ومع ذلك، لا يوجد رواية موحدة حول عدد الضحايا.
وعلى المستوى الرسمي، امتنعت السلطات الإيرانية لشهور عن إعلان أي أرقام رسمية لعدد القتلى، وحاولت لاحقًا إبراز العدد أقل مما هو عليه في الواقع.
محاولات للتنصل من المسؤولية وتصغير حجم القمع في أبريل (نيسان) 2021، قال عضو البرلمان آنذاك والرئيس الإيراني الحالي، مسعود بزشکیان، في مقابلة مع صحيفة "همدلي" حول سبب عدم متابعة عدد القتلى: "أولئك الذين أعلنوا هذه الأرقام ذهبوا إلى السجن. أنا لم أعلن لأتفادى السجن؛ وأنتم أيضًا إذا أردتم القيام بذلك فستذهبون إلى السجن".
كما أكد عبد الرزاق رحماني فضلي، وزير الداخلية في حكومة الرئيس الإيراني الأسبق، حسن روحاني، في 31 مايو (أيار) 2020 مقتل نحو 225 شخصًا، وبشأن إطلاق النار على رؤوس المتظاهرين، قال- ببرود أعصاب: "حسنًا، لم نطلق النار فقط على الرؤوس، بل أيضًا على الأرجل".
وفي اليوم التالي، أعلن رئيس لجنة الأمن القومي في الدورة العاشرة للبرلمان الإيراني، مجتبي ذو النور، أن عدد قتلى احتجاجات نوفمبر 2019 كان 230 شخصًا، وقال: "الإعلام الأجنبي أعلن أرقامًا كاذبة حتى وصل إلى 10 آلاف قتيل، لكن العدد الإجمالي كان 230، بينهم ستة عناصر أمنية".
وقال النائب السابق في البرلمان الإيراني، مصطفى كواكبيان، في 20 يناير (كانون الثاني) 2020، إن السلطات أبلغت أعضاء هذه اللجنة بأن عدد القتلى في احتجاجات نوفمبر كان 170 شخصًا، لكنه لم يحدد أي جهة جمعت هذه الأرقام وأبلغت بها؛ وهو الرقم الذي نُشر قبل أيام في مجلة "باسدار إسلام" في مدينة قم.
ويرى كثير من المراقبين أن الجزء الأكبر من القمع وقع بعد خطاب المرشد الإيراني، علي خامنئي في 17 نوفمبر 2019؛ حيث وصف المحتجين بأنهم "أشرار" وفتح فعليًا الطريق للقمع العنيف.
صورة أوسع لأبعاد المجزرة في المقابل، كشفت تقارير نشطاء حقوق الإنسان والهيئات والإعلام المستقل عن أرقام تفوق بكثير الروايات الرسمية، مما يعكس حجم القمع الدموي الواسع، الذي تعرض له المتظاهرون.
وأعلنت منظمة العفو الدولية عام 2020، في تقريرٍ لها، أنها استطاعت توثيق مقتل ما لا يقلّ عن 304 متظاهرين بين 16 و19 نوفمبر 2019، وقامت في نوفمبر 2021 بتحديث هذه القائمة إلى أكثر من 324 شخصًا.
ونشر موقع "كلمة"، في 2 يناير 2020، تقريرًا استنادًا إلى الأرقام الواردة في "نشرات سرية مصنّفة بحسب المحافظات في مختلف أنحاء البلاد"، وذكر فيه أن عدد قتلى احتجاجات نوفمبر بلغ 631 شخصًا.
وفي سياقٍ متصل، أفادت وكالة "رويترز"، في 23 ديسمبر (كانون الأول) 2019، استنادًا إلى ثلاثة مسؤولين في وزارة الداخلية ومصدر مقرّب من مكتب المرشد الإيراني، بأن العدد التقريبي للضحايا يصل إلى نحو 1500 قتيل؛ وهي رواية جُمِع فيها المتظاهرون والمارّة والنساء والمراهقون وجزء من عناصر الأمن معًا.
كما أعلنت منظمة حقوق الإنسان في إيران، في 20 ديسمبر 2019، أن ما لا يقلّ عن 324 مواطنًا قُتلوا خلال تلك الاحتجاجات.
ونشر موقع "هرانا"، في 3 ديسمبر 2019، تقريرًا بعنوان "موجز عن احتجاجات نوفمبر الدامية 2019"، قال فيه إن مركز الإحصاء التابع له وضع ثلاث طبقات من البيانات لعدد الضحايا، وأن التقديرات العامة للهيئات ووسائل الإعلام غير الحكومية تشير إلى أكثر من 430 قتيلاً.
وهذا التباين الكبير بين الأرقام المتعلقة بعدد قتلى احتجاجات نوفمبر 2019 هو نتيجة غياب إمكانية إجراء تحقيقٍ مستقل داخل إيران في ظلّ الرقابة المنهجية، التي يفرضها نظام خامنئي، فضلاً على اختلاف طرق جمع البيانات.
الارتفاع الحاد في الوفيات وفق سجلات الأحوال المدنية من جهة أخرى، وعلى الرغم من غياب الإحصاءات الرسمية الشفافة، فقد قدّمت بيانات الأحوال المدنية في البلاد مؤشرًا مهمًا لفهم حجم المجزرة.
ونشرت منظمة الأحوال المدنية عام 2021 الإحصاءات الشهرية للوفيات في خريف 2019؛ وهي بيانات أظهرت تسجيل أكثر من سبعة آلاف وخمسمائة حالة وفاة إضافية في شهر نوفمبر من ذلك العام، مقارنة بمتوسط السنوات السابقة.
ففي نوفمبر 2019 وحده، سُجِّل في نظام الأحوال المدنية ما لا يقلّ عن 38 ألفًا و517 حالة وفاة؛ أي أكثر بأربعة آلاف حالة من أكتوبر (تشرين الأول) الذي شبقه مباشرة، وبقرابة خمسة آلاف حالة من ديسمبر. وقد أعلن عدد كبير من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي آنذاك أن هذا الارتفاع لا يشبه أيّ نمط معروف للوفيات في السنوات السابقة أو اللاحقة.
وفي السنوات التالية، أكدت تحليلات ودراسات إحصائية هذا المشهد، مشيرةً إلى أن الزيادة الاستثنائية البالغة عدة آلاف من الوفيات في خريف 2019 لا يمكن تفسيرها بانتشار "كورونا" أو "الإنفلونزا"، ولا بحوادث السير، ولا بالأخطاء المعتادة في التسجيل؛ إذ لم يُظهر أي من هذه العوامل نمطًا تصاعديًا ينسجم مع هذه الذروة غير الطبيعية.
وهذا الارتفاع الكبير في بيانات الأحوال المدنية، عندما يُوضَع إلى جانب الروايات الميدانية عن طريقة القمع، يرسم صورة أوضح لحجم المجزرة في نوفمبر 2019.
قطع الإنترنت وتوسّع القمع إلى جانب هذا الارتفاع في الوفيات، أدّت شدة القمع في الشوارع وقطع الإنترنت بشكلٍ واسع في الأيام الأخيرة من نوفمبر 2019 إلى إخراج جزء مهم من الواقع عن نطاق التوثيق المستقل.
فمع بدء الاحتجاجات واتّساعها في عشرات المدن ومئات النقاط، قُطع الإنترنت المحمول والمنزلي تمامًا لعدة أيام؛ وهو إجراء حرم المواطنين من إمكان تصوير الأحداث، وإرسال التقارير، وإبلاغ العائلات عما يجري.
وقدمت الشهادات الميدانية وروايات المواطنين، في الأسابيع والأشهر التالية، صورة مماثلة؛ إذ جرى استخدام واسع للأسلحة العسكرية، وإطلاق الرصاص مباشرة على رؤوس ووجوه وصدور المتظاهرين، وفي بعض المناطق مثل مدينة "ماهشهر"، جرى استخدام الرشاشات الثقيلة ضد متظاهرين احتموا بالمستنقعات على أطراف المدينة.
وأكد مسؤولون محليون بالمدينة، في مقابلات لاحقة، حصول هذه المجزرة، لكن لم يُقدَّم أي رقم رسمي عنها؛ وهو النمط نفسه الذي تكرر في عدد من المدن الأخرى في إيران.
وجاء في التقارير المستقلة من "ماهشهر" أن عشرات المتظاهرين، بينهم نساء ومراهقون، استُهدفوا بالرشاشات أثناء لجوئهم إلى المستنقعات. وقدّرَت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية عدد ضحايا هذا الحادث بنحو 100 شخص.
الضغط على عائلات الضحايا إلى جانب القمع في الشوارع، شكّل الضغط المنظّم، الذي مارسته الأجهزة الأمنية والقضائية للنظام الإيراني على عائلات الضحايا، عائقًا آخر أمام توثيق الأرقام بدقة.
فقد خضعت عائلات الضحايا في الأشهر والسنوات، التي تلت نوفمبر 2019، لواحدة من أشدّ حملات الضغط والتهديد والمراقبة، بهدف إسكاتهم وثنيهم عن المطالبة بتحقيق العدالة، ومنعهم أيضًا من تسجيل أي رقم يتعارض مع الرواية الرسمية للنظام.
واستُدعي كثير من أفراد هذه العائلات للتعهّد بعدم التحدث مع وسائل الإعلام عن كيفية مقتل أبنائهم. وتعرّض آخرون لتهديدات مباشرة بأنهم إذا لم يصمتوا، فسيُصاب أفراد آخرون من الأسرة بأذى، أو "سيُقتلون".
وحين قصدت بعض العائلات المستشفيات والمراكز الطبية، واجهت جدارًا آخر من الصمت؛ فلم تُعثر على أسماء ذويها في السجلات، ولم يُسلَّم لها أي ملف طبي أو تقرير إسعاف أو نتيجة تشريح. وقيل لها إن الوثائق "سرية" أو يجب متابعتها عبر الأجهزة الأمنية.
وفي بعض الحالات، مُنع حتى تسجيل إصابات الجرحى أو نقل الجثث إلى المستشفيات رسميًا، حتى لا يبقى أي أثر عن وقت الإصابة أو نوعها أو هوية المصابين في الأنظمة الرسمية.
وهذا التعتيم جعل التحقق من سبب الوفاة وطريقتها شبه مستحيل بالنسبة للجهات المستقلة.
وإضافةً إلى التهديدات، واجه كثير من العائلات ظاهرة أخرى؛ فقد سُلّمت جثامين بعض الضحايا للعائلات تحت الضغط والإلحاح، وفي حالات كثيرة جرى الدفن ليلاً، ودون حضور ذوي المتوفين، لمنع إقامة مراسم أو تجمعات أو نشر الصور.
كما استُخدمت في شهادات الوفاة عبارات مبهمة مثل "إصابات ناجمة عن اشتباك"، "ضربة بجسم صلب" أو "توقف القلب"، لإخفاء السبب الحقيقي للوفاة، وهو الإصابة بالرصاص أو جراء إطلاق النار المباشر أو الضرب العنيف.
وفي عدد من الملفات، حاولت قوات الأمن تقديم الضحايا بوصفهم "مثيري شغب" أو "مشتبهين أمنيين"، وتصوير موتهم كأنه نتيجة "اشتباك مسلح”.
وهذه الإجراءات مجتمعة أدت إلى سدّ الطريق أمام التوثيق المستقل، وجعلت الوصول إلى الأرقام الحقيقية غير ممكن.
ونتيجةً لعدم القدرة على الوصول إلى المستشفيات والطب الشرعي والوثائق الرسمية، اضطرت المؤسسات المستقلة إلى اعتماد طرق مختلفة في تسجيل القتلى.
فغالبية منظمات حقوق الإنسان لا تنشر إلا الأسماء، التي جرى التحقق منها، عبر عدة مصادر وشهادات مستقلة؛ لذلك فإن قوائمها تمثل "الحد الأدنى الموثّق" لا "العدد الحقيقي للضحايا".
وفي المقابل، قدّمت وسائل إعلام مثل "كلمة" أو الشبكات المحلية، التي تصل إلى تقارير المحافظات أو مصادر غير رسمية، أرقامًا أعلى.
أما منظمة "هرانا"، المعنية بحقوق الإنسان في إيران، فقد قدمت ثلاثة مستويات من الأرقام: تقدير عام يفوق 430 قتيلاً، قائمة بأسماء 227 شخصًا، و88 حالة مؤكدة بشكل مستقل. هذا الاختلاف في الأساليب يفسر جزءًا مهمًا من التباين بين الأرقام.
وإلى جانب القتلى، امتدّ نطاق القمع في نوفمبر 2019 إلى آلاف الاعتقالات والأحكام القضائية القاسية؛ إذ حُكم على كثيرين بالإعدام، والسجن لمدد طويلة، والنفي، والحرمان من الحقوق الاجتماعية.
ولا يزال محمد جواد وفايي ثاني، الملاكم والسجين السياسي المعتقل بسبب مشاركته في هذه الاحتجاجات، تحت طائلة حكم الإعدام.
وهذا الواقع يذكّر بأن رسالة القمع في أحداث "أبان" (نوفمبر الدامي) لم تُوجّه فقط في الشوارع، بل امتدت إلى محاكم الثورة، وغرف التحقيق، والسجون.
لماذا لم يُعرف العدد النهائي حتى الآن؟ بعد ست سنوات من نوفمبر 2019، يبقى غياب آلية فعالة لكشف الحقيقة، سواء داخل إيران أو على المستوى الدولي، العائق الأكبر أمام تحديد العدد النهائي للضحايا.
فالنظام لم ينشر أبدًا وثائق المستشفيات، أو قوائم القتلى، أو تقارير الطب الشرعي، أو الملفات القضائية الخاصة بهم.
كما أدى قطع الإنترنت، وحذف الأدلة المصوّرة، واعتقال الشهود، وتهديد العائلات، إلى ضياع جزء كبير من الشواهد المستقلة.
وفي هذه الظروف، لا تستطيع الجهات المستقلة سوى الاعتماد على شهادات العائلات والوثائق المحلية وبيانات الأحوال المدنية؛ وهي بيانات تسمح فقط بتقديم "حد أدنى موثّق" لا "رقم نهائي"، وهو ما يفسّر بقاء التباين قائماً.
إن الفجوة بين الأرقام الرسمية، التي يعلنها النظام وبين الأرقام التي تقدّمها المصادر المستقلة ليست اختلافًا تقنيًا؛ بل هي انعكاسٌ لحجب الحقيقة بشكل ممنهج وللسياسات القمعية.
إن جمع بيانات الأحوال المدنية، والروايات الميدانية، وشهادات العائلات، وتقارير حقوق الإنسان يقدم صورة واضحة: "نوفمبر 2019" كان واحدًا من أكثر موجات القمع دموية في تاريخ النظام الإيراني، وعدد ضحاياه الحقيقي أكبر بكثير مما اعترف به النظام.
ولا تُعد مطالبة العائلات بالعدالة مجرد محاولة لتوثيق عدد القتلى، بعد ست سنوات على نوفمبر 2019، بل هي محاولة للحفاظ على حقيقة يسعى النظام الإيراني إلى محوها.
وقد واصل كثير من هذه العائلات، مثل عائلات الضحايا في العقود الماضية، المطالبة بالعدالة، رغم التهديدات المستمرة من الأجهزة الأمنية للنظام الإيراني، وحوّلوا الحداد والفجيعة إلى فعل سياسي ومدني.
وتُظهر تجارب الدول، التي انتقلت بعد فترات القمع إلى مسار العدالة الانتقالية أنه لا يمكن لأي مجتمع أن يتجاوز جراحه الجماعية، دون كشف الحقيقة كاملة، وتوثيق أسماء جميع الضحايا، ومحاسبة الآمرين والمنفذين.
إن مطالبة عائلات ضحايا نوفمبر 2019 بالعدالة اليوم جزء من هذا المسار؛ مسارٍ سيشكّل مستقبلاً أساس أي آلية لكشف الحقيقة وتحقيق العدالة.
ويظل "نوفمبر 2019" ملفًا مفتوحًا، لن يُغلق إلا بتشكيل آلية لكشف الحقيقة ونشر الوثائق الرسمية، فيما يبقى سؤاله المركزي قائمًا: "كم عدد من قتلهم النظام الإيراني في تلك الأحداث؟".