وفي العديد من الحالات، سعت طهران إلى تقديم هذه الإجراءات في إطار "تأمين الأمن ومكافحة المخالفات البحرية"؛ وهي رواية تتمتع بمرونة قانونية وتمكّن النظام الإيراني من إظهار أفعاله بأنها مبرَّرة في تعاطيه مع دول المنطقة والهيئات الدولية.
فعلى سبيل المثال، يُصنّف احتجاز الناقلات التي تحمل الوقود المهرّب في يوليو (تموز) من هذا العام وأغسطس (آب) من العام الماضي (القضايا المرتبطة بناقلة بيرل-جي أو شحنات الوقود المهرّب المزعومة في بحر عُمان) ضمن الفئة التي يسمّيها النظام الإيراني "مكافحة التهريب المنظّم".
وفي المقابل، يأتي احتجاز سفينة "إم إس سي أريس" في أبريل (نيسان) من العام الماضي بحجة أنّ السفينة "تابعة لإسرائيل" مثالاً آخر لهذا النمط الذي يستند إلى خطاب أمني-إقليمي.
وفي كلتا الفئتين، كان الهدف من تحركات النظام الإيراني إرسال رسالة قوة وسيطرة وردع في الممرات المائية الحيوية بالمنطقة، من دون أن تؤدي هذه الإجراءات بالضرورة إلى مواجهة مباشرة.
حادثة "تالارا": رسالة طهران الاستراتيجية في مضيق هرمز
لكن احتجاز ناقلة النفط "تالارا" في مضيق هرمز يختلف جذرياً من حيث طبيعته عن الفئتين السابقتين؛ فلا ادعاء بالتهريب طُرح حولها، ولا نُسبت إليها أي صلة بشبكات بحرية إسرائيلية.
وهذا الأمر يضاعف من أهمية الحادثة. فوفقاً لرواية المسؤولين الأميركيين، كانت الناقلة "تالارا" التي ترفع علم جزر مارشال تُبحر من ميناء عجمان في الإمارات نحو سنغافورة، عندما حاصرتها ثلاثة زوارق سريعة تابعة للحرس الثوري وأجبرتها على تغيير مسارها.
وتُظهر بيانات الطيران أنّ طائرة مسيّرة تابعة لسلاح البحرية الأميركي كانت تحلّق فوق المنطقة لساعات وقد سجّلت لحظة بلحظة عملية الاحتجاز. كما أن شركة إدارة الناقلة أعلنت أنّ اتصالها بالسفينة انقطع تماماً ولا تعرف وضعها الحالي.
كما وصف مركز عمليات التجارة البحرية في بريطانيا الحادث بأنه "نشاط حكومي محتمل". إنّ هذا المستوى من الوضوح في الرصد والتوثيق، ووقوع الحادثة في واحدة من أكثر النقاط الجيوسياسية حساسية في العالم، يؤكدان أنّ احتجاز "تالارا" كان خطوة محسوبة بالكامل، وليس حادثاً عرضياً أو ردّ فعل لحظي.
وإذا وضعنا احتجازات النظام الإيراني السابقة في فئتين واضحتين، هما التهريب وقضايا الارتباط بإسرائيل، فإن حادثة "تالارا" لا تندرج ضمن أي منهما، بل تبرز نمطاً ثالثاً: استخدام احتجاز ناقلات النفط كأداة ضغط جيوسياسي في اللحظات الإقليمية والدولية الحرجة.
وقد استُخدمت هذه الأداة بصورة متكررة بين عامي 2019 و2022، لكنها كانت أقل ظهوراً في الأشهر الأخيرة.
والآن، بعد الحرب التي استمرت 12 يوماً بين النظام الإيراني وإسرائيل، يبدو أن طهران أعادت تفعيل هذه الذراع. ففي هذه المرحلة الزمنية، تريد إيران إظهار أنها رغم ما تكبّدته من كلفة في الحرب المباشرة، فإنها ما زالت قادرة على تعطيل تدفق الطاقة العالمي وفرض كلفة استراتيجية على خصومها.
كما يجب اعتبار هذا الإجراء جزءاً من الرد غير المباشر للنظام الإيراني على الهجمات الأميركية ضد منشآته النووية في الصيف الماضي. وهو ردّ يتجنب المواجهة المباشرة، لكنه يبعث برسالة واضحة تماماً.
الرسالة الإقليمية: من الردع في هرمز إلى التلاقي مع الحوثيين
وفي هذا السياق، يُحتمل بجدية أن تكون حادثة "تالارا" مرتبطة بتداعيات ما بعد الحرب بين النظام الإيراني وإسرائيل. فبعد انتهاء الحرب، احتاجت طهران إلى إظهار أنها ليست في موقع ضعف، وأنها ما تزال قادرة على إظهار قدرتها العملياتية في مياه المنطقة.
واحتجاز ناقلة غير متهمة بالتهريب ولا ترتبط بإسرائيل مثالٌ واضح على "استعراض القوة دون تجاوز خطوط الحرب الحمراء".
وهذا الإجراء لا يخاطب أطراف الحرب الأخيرة فحسب، بل يوجّه أيضاً رسالة لدول المنطقة مفادها أنّ أمن مضيق هرمز – وهو الشريان الرئيسي لتجارة الطاقة في العالم – لا يمكن ضمانه من دون أخذ حسابات النظام الإيراني بعين الاعتبار.
وتحاول طهران عبر هذا التحرك الإيحاء بأنّ مرحلة ما بعد الحرب لا تزال تتأثر بقدرات إيران العملياتية في البحر، وأن أي تغيير في التوازن الإقليمي يجب أن يراعي هذه القدرة.
ومن ناحية أخرى، لا يمكن تقييم الحادثة بمعزل عن الدور المتزايد للقوى الوكيلة للنظام الإيراني في المنطقة.
ففي الأشهر الماضية، كانت هجمات الحوثيين ضد السفن في البحر الأحمر أحد أهم عوامل زعزعة استقرار تجارة الطاقة والبضائع. وهذه الهجمات التي استمدّت زخمها مباشرة من حرب غزة، أجبرت قطاعات واسعة من الشحن العالمي على تغيير مساراتها.
ومع عودة الحرس الثوري إلى سياسة الاحتجاز في هرمز، يبدو أن النظام الإيراني يفتح جبهة جديدة موازية لجبهة البحر الأحمر.
فإذا كان البحر الأحمر ساحة عمليات الحوثيين، فإن مضيق هرمز هو ساحة عمليات النظام الإيراني مباشرة. ويمكن لهذا التلاقي أن يفرض ضغطاً متزايداً على مسارات الطاقة العالمية، ويضع الدول المستوردة للطاقة من أوروبا إلى شرق آسيا أمام لاعب متكامل من محور إيران.
كما يحمل احتجاز "تالارا" رسالة مهمة أخرى: إن النظام الإيراني في الأشهر الأخيرة، خلافاً للسنوات الماضية، يتحرّك نحو إجراءات بلا أي غطاء قانوني.
ففي احتجازات مزعومة تتعلق بالتهريب، كان هناك على الأقل ادعاء قانوني-قضائي؛ وفي القضايا المتعلقة بإسرائيل، كان هناك تبرير أمني. أما في قضية "تالارا"، فلا يوجد حتى هذا الغطاء الشكلي. وهذا يعني أن طهران تتعمّد الابتعاد عن استراتيجية "الغموض القانوني" لتتجه نحو "إظهار الإرادة العملياتية دون تبرير"؛ وهو سلوك يميّز عادة الفترات الانتقالية ومرحلة التوترات العميقة.
وفي المحصلة، يجب اعتبار احتجاز ناقلة النفط "تالارا" – إذا أُعلن رسمياً من قبل النظام الإيراني – جزءاً من عودة النظام إلى استراتيجية الضغط البحري؛ وهي استراتيجية تُستخدم للردع، والمناورة السياسية، وإرسال الرسائل إلى الخصوم.
وتُظهر الحادثة أن طهران بعد حرب الـ12 يوماً لا تنوي الدخول في مرحلة السكون، بل تسعى إلى إعادة تعريف المعادلة الأمنية في المنطقة بشكل فعّال.
وإذا استمر هذا الاتجاه، فقد يدخل مضيق هرمز وبحر عُمان مرحلة جديدة من عدم الاستقرار. مرحلة يكون فيها الحرس الثوري في هرمز والحوثيون في البحر الأحمر مكمّلين لبعضهما البعض، وتتعرض فيها الممرات البحرية من المتوسط إلى المحيط الهندي لضغط محور يهدف إلى استعادة حصة ودور النظام الإيراني في التوازنات الإقليمية والدولية.