وفي 15 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، أعلنت حكومة الرئيس الإيراني آنذاك، حسن روحاني، زيادة مفاجئة بنسبة 200 في المائة بسعر البنزين، وهو قرار أثار موجة من الغضب والاحتجاج في جميع أنحاء البلاد.
وخلال أقل من أسبوع، شهدت مئات المدن في 29 محافظة تجمعات احتجاجية ضد النظام. بدأت الاحتجاجات بمطالب معيشية، لكنها سرعان ما تحولت إلى شعارات سياسية مناوئة للحكومة.
وأكدت منظمات حقوق الإنسان، مثل العفو الدولية ومفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، أن قوات الأمن أطلقت النار مباشرة على رؤوس وصدور وعيون المحتجين من أسطح المباني والمروحيات.
وفي 16 نوفمبر، دافع المرشد الإيراني، علي خامنئي، عن رفع أسعار الوقود ووصف المحتجين بـ "الأشرار والأعداء". وتلا ذلك قطع الإنترنت على نطاق واسع وتصاعد القمع ضد المحتجين.
وحسب تقارير منظمات حقوق الإنسان، فقد اعتُقل ما لا يقل عن 8600 شخص في مختلف المحافظات الإيرانية خلال تلك الاحتجاجات.
وأكدت المحكمة العليا حكم الإعدام على محمد جواد وفائي ثاني، أحد محتجي نوفمبر 2019، فيما كانت عمليات الاستجواب في العديد من هذه القضايا مصحوبة بالتهديد والاعتداء وأشكال أخرى من التعذيب.
وأُفرج عن كثيرين لاحقًا بكفالات، لكن عددًا من المعتقلين حُكم عليهم بالسجن الطويل أو بالإعدام في محاكمات جائرة، غالبًا دون إمكانية الوصول إلى محامٍ من اختيارهم، وبالاعتماد على اعترافات تحت الضغط.
وبعد ست سنوات، لا تزال عائلات الضحايا تطالب بالكشف عن الحقيقة ومعاقبة المسؤولين عن المجزرة، ولا تزال عبارة "نوفمبر مستمر" تُكتب على قبور الضحايا.
العودة إلى نقطة الانفجار
في خريف 2025، تعود نفس الهمسات مجددًا. تقول حكومة الرئيس الإيراني الحالي، مسعود بزشکیان، إنها لا تخطط لزيادة الأسعار، لكن مشروع "تعدد أسعار البنزين" مطروح في البرلمان والحكومة.
وأعلن عضو لجنة الاقتصاد في البرلمان الإيراني، حسين صمصامي، في 10 نوفمبر الجاري، أن سعر البنزين سيصل إلى خمسة آلاف تومان للتر الواحد، وأن القرار سيُنفذ. وأضاف أن الحكومة لا تدفع أي تكلفة لإنتاج البنزين، بل تبيعه للمصافي بخفض 5 في المائة عن سعره في المنطقة وتشتريه بالسعر نفسه.
وأكد أن "التكلفة الحقيقية للحكومة لكل لتر بنزين أقل من ألفي تومان".
في المقابل، قال نائب الرئيس الإيراني للشؤون التنفيذية، محمد جعفر قائم بناه، في 4 نوفمبر الجاري: "إن اللتر الواحد الذي يضعه الناس في سياراتهم يكلف الحكومة 34 ألف تومان، لكن نبيعه لهم بألف وخمسمائة أو ثلاثة آلاف تومان".
وحذر عدد من النواب المحافظين، في 9 نوفمبر الجاري، من تبعات زيادة الأسعار. كما أشار نائب رئيس لجنة الطاقة في البرلمان الإيراني، فرهاد شهرکی، في الثامن من الشهر الجاري أيضًا، إلى نفاد الميزانية المخصصة لاستيراد البنزين في الأشهر الأولى من العام، وأن الحكومة لا تمتلك العملة اللازمة للشراء.
وفي 4 نوفمبر، أعلنت المتحدثة باسم الحكومة الإيرانية، فاطمة مهاجراني، أن الحكومة لم تتخذ قرارًا بزيادة سعر البنزين المخصص، وسيظل يُباع بالأسعار الحالية.
قال پزشکیان، الذي كان قد أكد خلال المناظرات الانتخابية "لن نرفع سعر البنزين"، في الأول من آبان إن: "سعر البنزين أرخص حتى من الماء، وفي الواقع لا شكّ في رفع سعره".
وردت هذه التصريحات في وقت أذنت فيه حكومة پزشکیان في الأشهر الأخيرة برفع أسعار بعض السلع الاستهلاكية؛ ومن ذلك زيادة سعر الخبز التي أثارت انتقادات واسعة.
وقبل ذلك، في 19 مهر، نشرت عدة وسائل إعلام داخل إيران صورًا لمصوّبة صدرت في 27 شهریور عن هیأت الوزراء، تفيد بأن حكومة الجمهورية الإسلامية وضعت إطارًا جديدًا لرفع أسعار البنزين وسياسات مرتبطة باستهلاك الوقود.
وحذّر خبراء الاقتصاد من أن أي رفع في أسعار الوقود في ظلّ الظروف التضخّمية الراهنة قد يثير موجة جديدة من السخط والاحتجاج الشعبي.
في اقتصادٍ يعاني في الوقت نفسه من أزمة الطاقة وركودٍ عميق، باتت السياسات السعرية أكثر من أيّ وقت "سياسية ومحفوفة بالمخاطر".
التضخّم والفقر وتآكُل القدرة المعيشية
حذّر فرشاد مومني، الاقتصادي، في 8 نوفمبر الجاري، في مقابلة مع "إيران إنترناشيونال" من عواقب رفع سعر البنزين، معتبراً أن الادّعاء بأن "السياسة الصادمة" (سياسة "العلاج بالصدمة") ستُقلِّص عجز الموازنة هو "كذبة كبيرة".
وشدّد على أن رفع سعر البنزين يَضُرّ بالدرجة الأولى الشرائح الدنيا التي لا تملك سيارات. وتعكس هذه الرؤية قلقًا واسعًا لدى الخبراء الذين يحذرون من أن سياسات الصدمة في ظلّ تضخّم مرتفع تزيد الفجوة الطبقية.
وقال الأستاذ الجامعي والخبير الاقتصادي المُقيم في ستوكهولم، أحمد علوي، لـ "إيران إنترناشيونال"، في 15 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي: "في اقتصادٍ يعاني معدلات تضخم عالية وانخفاض نمو الأجور الحقيقية، فإن أي تغيير في أسعار الطاقة، خصوصًا البنزين والديزل، سيؤثّر أبعادًا متعدِّدة على مستويات المعيشة والإنتاج".
كما قال الخبير الاقتصادي، مرتضى افقه، في 15 أكتوبر الماضي، أيضًا لموقع "نشان تجارت": "يبدو أن الحكومة لم تعد تملك أموالًا لاستيراد البنزين، والشعب أيضاً لم يعد يحتمل تراكم موجات التضخّم السنوية".
من محطّات الوقود إلى انقطاع التيار والماء: أزمة أوسع في الطاقة
إيران اليوم، بعد أكثر من أربعة عقود من حكم النظام، لا تواجه مشكلة البنزين فحسب؛ فطيف من النّقائص والتّآكل في البُنى التحتية دفع البلاد إلى حافة انهيار قطاع الطاقة.
وشهدت انقطاعات في التيار الكهربائي صيفًا، وهبوطًا في ضغط الغاز شتاءً، وجفافًا مزمنًا ونقصًا حادًا في المياه على امتداد البلاد. ويقول الخبراء إن هذه الأزمة ليست نتيجة العقوبات فقط، بل نتيجة سنوات طويلة من سوء الإدارة والفساد في شبكات التوزيع والاستثمار.
وأدّى الجفاف وانخفاض منسوب السدود إلى شلّ الزراعة في عشرات المدن، وأُدرج تقنين مياه الشرب في كثير من المناطق على جدول الحياة اليومية. كما أصبح نقص الطاقة قضيّة تتعدّى الأرقام الاقتصادية لتصبح قضية وجودية واجتماعية تؤثر مباشرة على حياة ملايين الإيرانيين.
وفي هذا السياق، تواجه الحكومة الخيار الصعب بين رفع سعر البنزين مع مخاطر إشعال احتجاجٍ شعبي كبير وتكرار أحداث "نوفمبر الدامي" أو الإبقاء على الأسعار ودفع كلفة تفاقم التضخم عبر طباعة المزيد من النقود وزيادة القاعدة النقدية.
ظلّ "نوفمبر الدامي" على قرارات اليوم
في هذا المناخ الملبّد، نبه نواب البرلمان إلى "خطر تكرار الفواجع السابقة"، وذكّر مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي بأن تجربة "نوفمبر الدامي" لا تزال راسخة في الذاكرة الجماعية.
وأشار مراقبون إلى أن السلطات عززت شبكات المراقبة الرقمية، وزادت من استخدام الكاميرات الذكية وشرعت في موجات اعتقالات؛ وهي إجراءات يرى البعض أنها تهدف إلى قمع أي بادرة تجمع أو صوت احتجاجي قبل أن يصل إلى الشارع.
انفجارٌ محتمل
مع ذلك، يحذّر علماء الاجتماع من أن مزيج الفقر ونقص الماء والغضب المكتوم قد يحوّل أي قرار اقتصادي إلى شرارة سياسية. في مجتمعٍ بلغت قدرة صموده الاقتصادية أدنى مستوياتها، قد يصبح أي تغيير طفيف في سعر البنزين أو اضطراب في إمدادات الماء والكهرباء علامة فاصلة بين هدوءٍ هشّ وتوترٍ اجتماعي واسع.
وفي الأسابيع الأخيرة، تزامنًا مع تصاعد النقاشات حول رفع سعر الوقود، سُجّلت موجة جديدة من استدعاءات واعتقالات وتفتيش منازل صحافيين وكتّاب وباحثين ونشطاء اجتماعيين وعمال في مدن مختلفة.
ويرى ناشطون عماليون أن اعتقال مؤيدي الطبقة العاملة ومناضليها دون مبرّر هو دليل على أن قرارات تُعِدّ لإحداث أثر مباشر في جيوب الناس وسلال طعامهم.
ويصف المراقبون هذا السلوك بأنه جزء من نمط متكرّر: تُسبق قرارات اقتصادية كبرى بتدابير أمنية، كأنّ السلطة تجهّز نفسها لمواجهة الاحتجاج بدل الحوار مع المجتمع.