النفط الإيراني الرخيص... حريق في ثروة الشعب الإيراني

إن الزيادة غير المسبوقة في الخصومات التي تمنحها طهران للصين عند بيع النفط تُعدّ مؤشراً جديداً على هشاشة وضع النظام الإيراني في سوق الطاقة العالمية.

إن الزيادة غير المسبوقة في الخصومات التي تمنحها طهران للصين عند بيع النفط تُعدّ مؤشراً جديداً على هشاشة وضع النظام الإيراني في سوق الطاقة العالمية.
فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، تبدّل ميزان سوق النفط الدولي بالكامل، وتحولت المنافسة على بيع النفط الرخيص في آسيا إلى ساحة جديدة من التوتر الجيوسياسي بين إيران وروسيا والغرب.
ووفقاً لتقارير من مصادر تجارية، وصلت خصومات النفط الإيراني الخفيف عن سعر خام برنت في السوق الصينية إلى أكثر من 8 دولارات للبرميل، بل نزلت في بعض الصفقات إلى 10 دولارات- وهو أكبر فارق سعري منذ أكثر من عام. والمعنى واضح: إيران تضطر لبيع نفطها بأرخص الأسعار كي تجد من يشتريه.
لكن ما جذور هذا الوضع؟
من جهة، أدت العقوبات الأميركية والأوروبية المشددة على كل من روسيا وإيران إلى تقليص وصول البلدين إلى الأسواق الرسمية. ومن جهة أخرى، فإن المصافي الصينية المستقلة- وهي أكبر مشترٍ للنفط المخفض- تواجه نقصاً في تراخيص الاستيراد بسبب القيود الصارمة التي تفرضها بكين. هذا التباين بين وفرة المعروض وضعف الطلب جعل الأسعار تهبط وأربك السوق.
وعلى الرغم من أن إيران وروسيا تبدوان في جبهة واحدة ضد الغرب، فإنهما في الواقع دخلتا في منافسة مباشرة على السوق الصينية. فبعد حظر الغرب واردات النفط الروسي، سارعت موسكو إلى دخول الأسواق الشرقية وقدّمت خصومات مشابهة لتلك التي اعتادت طهران عرضها، ما ضيّق الخناق على الحصة الإيرانية في الصين.
وخلال العقد الماضي، أصبحت الصين الوجهة الثابتة تقريباً لنفط إيران، حيث يتم الجزء الأكبر من الصادرات عبر صفقات رمادية وباستخدام وسطاء وسفن خاصة.
وقد لعبت المصافي الصينية الصغيرة والمتوسطة، المعروفة باسم "تي بات"، دوراً محورياً في هذه التجارة. لكن هذه المصافي باتت اليوم أكثر حذراً بفعل الضغوط والعقوبات الأميركية، إذ فرضت واشنطن في الأشهر الأخيرة عقوبات على عدد من المصافي والموانئ والسفن الصينية لمشاركتها في شراء النفط الإيراني، ما دفع العديد من المشترين المحتملين إلى التريث ومراقبة اتجاه السياسات الأميركية والصينية تجاه طهران.
وتُظهر البيانات أن واردات الصين من النفط الإيراني تراجعت في سبتمبر (أيلول) إلى نحو 1.2 مليون برميل يومياً- وهو أدنى مستوى منذ مايو (أيار)- وتشكل هذه الكمية حوالي 14 في المائة من إجمالي واردات النفط الصينية. لكن استمرار هذا التراجع ينذر بخطر اقتصادي كبير على طهران، خصوصاً إذا لم تصدر الحكومة الصينية حصص استيراد جديدة.
اقتصادياً، قد تبدو خصومات تتراوح بين 8 و10 دولارات للبرميل مجرد أرقام بسيطة، لكنها في ظل صادرات تفوق مليون برميل يومياً، تعني خسائر بعشرات ملايين الدولارات يومياً- وهي أموال تحتاجها طهران بشدة لتغطية نفقاتها العامة ودفع رواتب موظفيها والحفاظ على استقرارها الاقتصادي.
غير أن المسألة تتجاوز الجانب المالي. فالخصومات الكبيرة تعكس ضعف قدرة إيران على التفاوض في سوق كانت تُعدّ يوماً إحدى أدوات نفوذها السياسي. ففي مرحلة العقوبات السابقة عام 2012، قبل الاتفاق النووي، اضطرت طهران أيضاً إلى بيع نفطها للصين بأسعار منخفضة مقابل الحصول على سلع وخدمات، وها هو التاريخ يعيد نفسه بشكل أكثر تعقيداً.
ففي الماضي، لم تكن روسيا في مواجهة مع الغرب، أما اليوم فهي منافس مباشر لإيران في بيع النفط الرخيص. بمعنى آخر، الشريك الاستراتيجي المفترض في مواجهة العقوبات الغربية أصبح خصماً تجارياً يستفيد من المأزق الإيراني.
سياسياً، هذا الوضع يعمّق تبعية إيران للصين، التي باتت في موقع يتيح لها فرض الأسعار وشروط الدفع وحتى توقيت التسويات. وبينما تحاول طهران تصوير علاقاتها مع بكين على أنها "استراتيجية"، تكشف الوقائع أن ميزان القوة يميل بالكامل لصالح الصين، وأن إيران مضطرة لتقديم تنازلات اقتصادية متكررة.
وفي النهاية، لا تمثل خصومات النفط الإيرانية مجرد نتيجة للعقوبات، بل علامة على تغيّر عميق في موازين القوة داخل سوق الطاقة الآسيوية. فإيران، التي تعتمد على نفطها أكثر من أي وقت مضى، تبيعه اليوم بأرخص الأسعار، ليغدو المورد الوحيد الذي يُفترض أن يمنحها القوة الاقتصادية والسياسية، سبباً في إضعافها، في سوق لا يتردد حتى "الحلفاء" الظاهريون في استغلال أزماتها لشراء نفطها بأبخس الأثمان.