لم يَعُد المرشحون الجدد في العراق يرغبون في التنافس تحت ظل طهران، حتى الفصائل الشيعية التقليدية، التي كانت يومًا من أقرب حلفاء الحرس الثوري الإيراني، ترفع اليوم شعار "الحياد" تجاه إيران والولايات المتحدة كأحد محاور برامجها الانتخابية.
الحياد تجاه واشنطن كان في السابق من عناصر الخطاب الشيعي، لكن حين يصبح الحياد تجاه إيران وأميركا معًا، فهذا مؤشر واضح على أن العراق يستعد لمرحلة جديدة.
هذا التحول هو نتيجة عقدين من التجارب المريرة؛ إذ إن النفوذ السياسي والعسكري الإيراني، الذي ترسّخ نسبيًا بعد سقوط صدام حسين، خلّف وراءه صورةً سلبيةً بسبب الفساد والطائفية والارتهان للاقتصاد النفطي.
اليوم، لم يعد الرأي العام العراقي يرى في إيران قوة داعمة أو حليفة، بل يعتبرها عاملًا من عوامل التدخل وعدم الاستقرار.
تراجع الدور الإقليمي لإيران
الهزائم الإقليمية المتتالية لإيران في ساحاتٍ عدة- من تراجع نفوذ حزب الله في لبنان إلى ضعف الحوثيين في اليمن وتدمير البنى العسكرية الإيرانية في سوريا- ألحقت ضررًا بالغًا بصورة طهران كقوةٍ إقليمية، وحوّلت أسطورة نفوذها إلى سرديةٍ متداعية.
في هذا السياق، يسعى العراق لاستعادة استقلاله السياسي. جيلٌ جديد من السياسيين العراقيين، من العلمانيين إلى المتدينين البرغماتيين، يحاولون إخراج السياسة الخارجية من عباءة الأيديولوجيا، وجعل المصلحة الوطنية محور القرار السياسي.
بعبارة أخرى، ينتقل العراق من مرحلة "الطاعة لطهران" إلى مرحلة "الاستقلال السياسي".
من النفوذ العسكري إلى المساومة السياسية
يرافق هذا التحول السياسي تراجعٌ ملموس في بنية النفوذ الإيراني داخل العراق، أبرزها تفكك شبكة ميليشيات الحشد الشعبي، ودخول قادتها إلى الانتخابات بوصفهم سياسيين بعد تراجع دورهم العسكري.
كان نموذج نفوذ إيران قائمًا على ما يُعرف بـ"حزب اللهنة"- أي إنشاء جماعاتٍ مسلحة موالية لطهران يمكنها تجاوز الدولة أو السيطرة عليها عند الحاجة.
لكن الحشد الشعبي، الذي كان من المفترض أن يكون النموذج الأنجح لهذا النمط، يواجه اليوم أزمة وجودية. ووفقًا لتقرير مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات (FDD)، فإن من أصل 238 ألف مقاتل تدّعي إيران تبعيتهم للحشد، لا يتجاوز العدد الحقيقي 48 ألفًا، فيما البقية "جنود وهميون".
أدّى الفساد المستشري والسخط الشعبي إلى تآكل شرعية الحشد الشعبي، ولم تعد طهران قادرة على الاعتماد عليه كذراعٍ عسكرية موثوقة. وبذلك اضطرت إيران إلى الانتقال من الميدان العسكري إلى الساحة السياسية.
قادة الميليشيات، مثل فالح الفياض، أحمد الأسدي، هادي العامري، قيس الخزعلي وعمار الحكيم، يخوضون الانتخابات بلوائح منفصلة، بعد أن فقدوا وحدتهم السابقة تحت المظلة الإيرانية.
استراتيجيًا، يمثّل هذا التحول انكماشًا في نفوذ إيران؛ فالحرس الثوري الذي كان يفرض معادلات بغداد عبر القوة، يجد نفسه اليوم مضطرًا للتفاوض والمنافسة الانتخابية بدلًا من فرض الأمر الواقع.
هذا التحول لا يُعدّ مؤشر قوة، بل علامة ضعف واضحة: فإيران لم تَعُد "قائدًا" في العراق، بل مساوِمًا سياسيًا.
في الوقت نفسه، تقف الضغوط الأميركية والانقسامات الداخلية حاجزًا أمام إضفاء الطابع الرسمي على الحشد الشعبي ضمن مؤسسات الدولة، وهو ما دفع السياسيين المقربين من طهران إلى تجنّب الإعلان العلني عن تبعيتهم لها.
في العراق الجديد، أي ارتباطٍ ظاهر مع إيران أصبح عبئًا سياسيًا لا ورقة رابحة.
شرق أوسط جديد بلا قيادة مزعزعة للاستقرار
في السنوات التي بلغت فيها إيران ذروة نفوذها الإقليمي، كان قاسم سليماني يُعدّ مهندس هذا النفوذ، باعتباره القائد الميداني وصاحب القرار في السياسة الخارجية.
يروي الجنرال الأميركي ديفيد بترايوس، قائد القوات الأميركية الأسبق في العراق، أن الرئيس العراقي آنذاك أبلغه رسالة من سليماني جاء فيها: "قل لبترايوس إنني، قاسم سليماني، من يحدد سياسة إيران في العراق، وسوريا، وأفغانستان، وغزة. إذا أردت حلّ أزمة البصرة، فعليك أن تتفاوض معي، لا مع الدبلوماسيين".
تكشف هذه الرواية كيف كان سليماني يرى نفسه صانع القرار الأول في المنطقة. لكن ذلك العصر انتهى تمامًا.
فالشبكة الواسعة من الميليشيات التي أنشأها سليماني من المتوسط إلى الخليج تآكلت؛ ولم يبقَ من إرثه سوى الانقسام والإنهاك الاقتصادي والعزلة السياسية لإيران.
اليوم، لم يَعُد هناك ما يُعرف بـ"الهلال الشيعي"، ولا بريق لنفوذ سليماني الميداني؛ فقد انهار كل ما بناه مع تغيّر موازين القوى وصعود الهوية الوطنية في بلدان المنطقة.
2025: عراق جديد وهوية مستقلة
تشير تحولات العراق عام 2025 إلى بداية مرحلة جديدة في نظام الشرق الأوسط. حيث إن إيران، التي أنفقت أموالًا طائلة لبناء "هلالها الشيعي" الممتد من طهران إلى البحر المتوسط، تواجه الآن تراجعًا في كل محور نفوذها.
في لبنان، يزداد حزب الله عزلةً يومًا بعد يوم.
وفي سوريا، سقط بشار الأسد.
وفي غزة، تتجه حماس نحو نزع سلاحها.
وفي الضفة الغربية، تُخمد القوى الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى.
أما في اليمن، فـ"أنصار الله" (الحوثيون) لم يعودوا قادرين على شن الهجمات كما في السابق.
وفي ظل هذه التراجعات، حتى لو تمكّنت إيران من الاحتفاظ بجزء من حضورها السياسي في العراق، فلن يكون لذلك وزن النفوذ السابق.
فالعراق اليوم يسير نحو هوية وطنية مستقلة، وإيران تفقد آخر حلقة من سلسلة نفوذها الإقليمي.