مع عودة عقوبات الأمم المتحدة بعد تفعيل "آلية الزناد"، دخل النظام الإيراني، بقيادة مرشده علي خامنئي، مرحلة صعبة، يمكن وصفها بـ "الأزمة الكبرى"؛ ويواجه وضعًا غير مسبوق يتكون من ثلاث معضلات متزامنة ومتشابكة في آن واحد، وهي:
1- عودة العقوبات الدولية. 2- ازدياد احتمالية الهجوم العسكري من جانب الولايات المتحدة أو إسرائيل. 3- تصاعد الغضب الداخلي واحتمال اندلاع انتفاضة شعبية.
وتستهدف هذه الأزمات الثلاث، التي يمكن لكل واحدة منها بمفردها أن تشكّل تهديدًا خطيرًا لاستقرار أي نظام، النظام الإيراني بشكل متزامن، والذي يواجه أزمة كبرى لا يمكن مقارنتها بأيٍّ من معضلاته السابقة.
الأزمة الأولى- عودة عقوبات الأمم المتحدة وآثارها المدمرة اقتصاديًا: تضع العقوبات الدولية الاقتصاد الإيراني تحت ضغط مباشر وغير مباشر؛ فبينما يدّعي مسؤولو النظام أن عودة هذه العقوبات بلا تأثير، تُظهر تطورات الأسبوع الماضي أن سعر الصرف ارتفع بشكل لافت، خلال أيام قليلة؛ إذ صعد الدولار من نحو 102 ألف تومان إلى 113 ألف تومان، ومن المتوقع أن يستمر هذا المسار التصاعدي.
وتؤدي زيادة سعر الصرف إلى ارتفاع أسعار جميع السلع، خاصة السلع الأساسية، مثل المواد الغذائية واللحوم ومنتجات الألبان والبيض؛ فقد ارتفع سعر "كرتونة" البيض من 80 ألف تومان إلى 180 ألف تومان في أقل من ثلاثة أشهر.
ومع تراجع الإيرادات من العملات الأجنبية، يتقلص توفير العملة لاستيراد السلع الأساسية، مثل علف الماشية، ما يؤدي إلى زيادة تكلفة المنتجات الحيوانية والألبان. ونتيجة لذلك، يزداد الضغط على معيشة المواطنين بشكل حاد.
وفضلاً عن ذلك، أتاحت عودة عقوبات الأمم المتحدة إمكانية تفتيش السفن الإيرانية في المياه الدولية، ما يضاعف احتمال عرقلة صادرات النفط الإيرانية. وبينما يُصدّر نفط إيران أساسًا عبر شبكات غير رسمية، والتهريب إلى الصين، تجعل عودة العقوبات الدولية هذه العملية مكلفة، حتى بالنسبة لبكين، التي من المستبعد أن تتحدى قرارات مجلس الأمن.
ويؤدي هذا الوضع إلى تراجع كبير في عائدات النفط، وزيادة عجز الموازنة، وارتفاع معدلات التضخم، وفي نهاية المطاف انهيار تدريجي للاقتصاد الإيراني. وقد توقّع بعض الاقتصاديين أن يقفز سعر الدولار الواحد إلى 200 ألف تومان أو أكثر؛ وهو سيناريو غير مستبعد، إذا استمر الوضع القائم.
وفي مثل هذه الظروف، يعتمد النظام الإيراني عمليًا على شبكات التهريب للالتفاف على العقوبات، ما جعل اقتصاد البلاد غارقًا في الفساد والمحسوبية. وقد أسهم حضور الحرس الثوري والأجهزة الأمنية، في صادرات النفط، بتعزيز السرية ونهب الموارد الوطنية تحت شعار "الالتفاف على العقوبات". واستحوذت تيارات مرتبطة بالنظام على ثروات البلاد بعشرات المليارات من الدولارات، وهي ثروات لا تدخل خزينة الدولة، ولا تخضع لأي رقابة عامة.
الأزمة الثانية- تصاعد احتمالية المواجهة العسكرية مع أميركا وإسرائيل مجددًا: أدى فشل المفاوضات الدبلوماسية وعودة عقوبات الأمم المتحدة إلى رفع خطر المواجهة العسكرية. ويلوح في الأفق سيناريوهان محتملان: أولهما: اشتباك بحري بين البحرية التابعة للحرس الثوري وأميركا؛ بسبب تفتيش السفن الإيرانية في المياه الدولية.
ثانيهما: هجوم جوي محتمل من إسرائيل على منشآت عسكرية أو نووية إيرانية.
ولم تعد إسرائيل تعوّل على المسار الدبلوماسي، وتعتقد أن النظام الإيراني يتجه نحو إنتاج سلاح نووي وصواريخ أكثر قوة. وبالنظر إلى تجربة إدارة الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، التي انتهجت سياسة ضبط النفس في مواجهة النظام الإيراني، فإن إسرائيل ترى الفترة المتبقية من رئاسة ترامب أفضل فرصة لتنفيذ هجوم جديد على طهران.
وقد أشار رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في تصريحاته الأخيرة إلى أنّ "عملنا مع النظام الإيراني لم ينتهِ"، وهي رسالة واضحة لاحتمال شنّ هجوم جديد. كما أن ضعف الدفاعات الجوية الحالية للنظام الإيراني يزيد من دافع إسرائيل للتحرك المبكر.
الأزمة الثالثة- ازدياد احتمالية الانتفاضة الشعبية وإسقاط النظام: إلى جانب العقوبات والتهديد العسكري، يقف الشعب الإيراني على أعتاب انتفاضة كبرى؛ حيث أظهرت تجارب انتفاضات 2009 و2017 ونوفمبر (تشرين الثاني) 2019، واحتجاجات سبتمبر (أيلول) 2022 "المرأة، الحياة، الحرية" (انتفاضة مهسا)، أن تحت السطح الاجتماعي طاقة هائلة قابلة للانفجار.
وإلى جانب الأزمة الاقتصادية، يشكّل الاستياء الشعبي، سياسيًا واجتماعيًا، أحد العوامل الأساسية للاحتجاجات؛ حيث يرى الشعب الإيراني أن نظام خامنئي سلطة غير منتخبة وفاشلة وقمعية. ويُعد فرض الحجاب الإجباري، وحجب الإنترنت، وقمع الحريات الفردية، جزءًا من أسباب السخط العام.
وستضاعف عودة العقوبات بعد تفعيل "آلية الزناد" من الضغط الاقتصادي، وإذا أدّى هجوم إسرائيلي جديد إلى مقتل قادة بارزين في النظام الإيراني، ومن بينهم مرشده علي خامنئي، فستتفكك بنية السلطة، وتزداد احتمالية الانتفاضة الشعبية ضد النظام.
ومما سبق يتضح جليًا أن النظام الإيراني يقف عند لحظة حاسمة، في مواجهة معضلة كبرى مكوّنة من ثلاث أزمات عميقة ومتزامنة، يمثّل تداخلها تهديدًا خطيرًا لبقاء النظام بأكمله. ورغم أن بنية السلطة في إيران واجهت، على مدى سنوات، أزمات مزمنة ومتفرقة، فإنها تجد نفسها اليوم أمام أزمة موحدة وعنيفة قد تكون حاسمة، بل وقد تفضي إلى سقوط النظام.