وماكينة الدعاية في هذا النظام تشبه القلب في الجسم؛ إذا توقفت عن العمل، ينهار النظام بأكمله.
وكتبت الفيلسوفة السياسية، هانا آرنت، في تحليلها للأنظمة الشمولية: "الكذب في هذه الأنظمة ليس وسيلة مؤقتة، بلهو شرط للبقاء".
ويسير النظام الإيراني على النهج نفسه. ولفهم هذا السلوك، يجب النظر إليه في سياق تقاليد الديكتاتوريات؛ فجميعها تدرك أن الناس إذا اقتنعوا بالهزيمة، فلن يطيعوا النظام بعد ذلك، لذا يجب خلق نصر وهمي.
ثلاثة مبادئ للدعاية في الديكتاتوريات
هناك ثلاثة مبادئ للدعاية في الأنظمة الديكتاتوية، وهي:
1- الرقابة على الحقيقة ودفن الواقع في الظلام:
الواقع في الحرب، التي استمرت 12 يومًا، واضح: إسرائيل استطاعت استهداف البنية التحتية والموارد البشرية للبرنامج النووي والصاروخي الإيراني، من القيادة إلى القواعد الصاروخية، بمساندة الولايات المتحدة.
ولكن الرواية الرسمية في طهران تجاهلت كل هذه الضربات. هذا هو منطق الرقابة: القضاء على الحقيقة قبل وصولها إلى الجمهور. حتى عندما تكشف الحقيقة، يجب إخفاء جزء منها وخلط الباقي بالكذب لتشويش الواقع.
وفي الديكتاتوريات، الرقابة تصل إلى أقصى درجاتها، كما فعلت ألمانيا النازية في ستالينغراد أو الاتحاد السوفيتي في مواجهة ألمانيا، حيث حُوّلت الهزائم إلى "انسحابات تكتيكية".
ويتبع النظام الإيراني النمط نفسه: إخفاء الحقيقة تحت شعار "النصر". ومع الطابع الديني للنظام، يُعرف المسار نحو "الشهادة" على أنه جزء من النصر الأبدي.
2- خلق صورة وهمية وعرض قوة غير موجودة:
تحتاج الديكتاتوريات دائمًا إلى خلق مسرحية قوية: عروض عسكرية، إطلاق صواريخ، أفلام مونتاج. هذه الطقوس تعمل على خلق شعور بالانتصار الجماعي حتى لو كان الواقع مختلفًا.
استُخدمت هذه الطريقة من قِبل صدام حسين بعد انسحابه من الكويت، والاتحاد السوفيتي بعد الانسحاب من أفغانستان، والنظام الإيراني بالطريقة نفسها من خلال إطلاق الصواريخ والشعارات الزائفة.
وحتى لو تسببت صواريخ طهران بخسائر لبعض المدنيين الإسرائيليين، الحقيقة أن الدفاعات الإسرائيلية لم تدّعِ حماية 100 في المائة، وما يقلقها حقًا هو الهجوم الصاروخي الإيراني، لكن النظام يضخم الأمر إلى "نصر".
3- الكذب المستمر وتزوير الذاكرة الجماعية:
التكرار المستمر للكذب يجعل الناس يصدقونه. كوريا الشمالية، على سبيل المثال، تصف الحرب الكورية بأنها "نصر تاريخي على الإمبريالية الأميركية"، ويُدرج هذا في المناهج الدراسية لتصديق الأجيال الجديدة.
ويكرر النظام الإيراني كلمة "النصر" باستمرار ليسيطر على ذاكرة مؤيديه، رغم أن الحقيقة تشير إلى فشل استخباراتي كبير، حيث تمكن "الموساد" من تنفيذ عمليات اغتيال وتدمير أنظمة الصواريخ الإيرانية بسهولة.
لماذا يدمن الديكتاتوريون النصر الوهمي؟
تستمد الديكتاتوريات شرعيتها من تمثيل القوة المطلقة، وليس من رضا الناس. فإذا تغلغلت صورة الهزيمة في المجتمع، تنهار الأعمدة النفسية للحكم.
ويعرّف عالم الاجتماع، ماكس فيبر، الشرعية على ثلاثة أسس: التقاليد، الكاريزما، والمنطق القانوني. والديكتاتوريات، مثل النظام الإيراني، تفتقر فعليًا إلى هذه الأسس، وتعيش فقط على صورة "قوة لا تُقهر". لهذا السبب لا يمكنه قبول الهزيمة في الحرب التي استمرت 12 يومًا.
ويوضح التاريخ أن الديكتاتوريين يدخلون في دورة إدمان: كل هزيمة جديدة تحتاج إلى "نصر وهمي" جديد. النازيون حتى آخر يوم في برلين المحطمة، والسوفييت حتى انهيار الاتحاد، والنظام الإيراني يسير على الطريق نفسه.
الدعاية.. مسكن مؤقت وليست علاجًا
الدعاية قد تؤخر الانهيار، لكنها لا توقفه. عندما تنهار الاقتصادات وتظهر الحقائق، تصبح أي عروض دعائية بلا جدوى.
تمامًا كما حدث مع الاتحاد السوفيتي؛ فالنصر الوهمي قد يهدئ مؤيدي النظام مؤقتًا، لكن الفجوة بين الواقع والواقع المعلن تتسع يومًا بعد يوم.
نهاية ماكينة الكذب
دعاية النظام الإيراني في الحرب، التي استمرت 12 يومًا، ليست ابتكارًا جديدًا ولا علامة على القوة، بل هي آلية موت للديكتاتوريات.
النظام يمكنه تكرار كلمة "النصر" آلاف المرات، لكن الحقيقة واضحة: الحرب كانت هزيمة مهينة. وعندما يكتشف المجتمع أن الحقيقة قد سرقت، يكون انهيار النظام ليس احتمالاً، بل ضرورة.
الديكتاتور يمكنه دائمًا بناء المشهد، لكنه لا يستطيع إخفاء الحقيقة عن الناس إلى الأبد، وهذا سيكون يوم نهاية ماكينة الدعاية للنظام الإيراني.