هذا الحدث، الذي تصفه الرواية الرسمية بـ"الزيارة"، أصبح عمليًا مناورة ضخمة للنظام لعرض قوته الإقليمية، وتعزيز الهلال الشيعي، وحشد رمزي داخليًا. لكن هل تتوافق هذه النفقات المالية والبشرية والسياسية مع المصالح الوطنية للمواطنين واحتياجات المجتمع الملحة؟
الأربعين، أي ذكرى أربعين يومًا بعد استشهاد الإمام الثالث للشيعة، هو أحد الشعائر المهمة في التقويم الشيعي. لكن مسيرة النجف إلى كربلاء بالشكل الحالي، هي ظاهرة حديثة ظهرت بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003 ورفع القيود التي فرضها البعث.
منذ حوالي عام 2011، دخلت إيران هذا المجال بكل قدراتها الإعلامية واللوجستية والمالية وحوّلت هذه الشعيرة الدينية إلى مشروع سياسي متعدد الأبعاد؛ منافسة للحج، وتعزيز النفوذ في العراق، وترسيخ الهيمنة الأيديولوجية.
في الخطاب الرسمي للنظام، لم يعد هناك ذكر للزيارة وحدها؛ فالأربعين أصبح "تدريبًا على الحضارة الإسلامية"، و"مناورة قوة للشيعة"، و"عرض للولاء للولي الفقيه".
ويعتبر خامنئي وقادة الحرس الثوري هذا الحدث ركيزة استراتيجية للحفاظ على الشرعية والنفوذ الإقليمي.
تقديس السياسة.. أداة للطاعة
منذ الأيام الأولى للثورة عام 1979، لم يكن الدين في إيران مجرد أداة للعبادة، بل رأس مال سياسي لبناء السلطة. جميع الهياكل، من التعبئة والحرب إلى الحجاب والأربعين، وُضعت في خدمة "تقديس السياسة". الهدف كان واضحًا: استغلال إيمان الناس لمنح الشرعية للنظام وإسكات المعارضين باسم الدين.
في هذا الإطار، تحولت مسيرة الأربعين من زيارة طوعية إلى "تعبئة جماهيرية دينية-حكومية"، حيث يُنظر إلى حضورها لدى الموظفين والجهات التابعة كعلامة على "الولاء للنظام".
المشاركة ليست بدافع الإيمان أو الاختيار، بل في كثير من الحالات نتيجة ضغط اجتماعي ومتطلبات وظيفية؛ زيارة يجب تصويرها على "إنستغرام" لتأكيد الحضور أمام المدير!
تكلفة الأربعين.. فاتورة ثقيلة على المواطنين
لا تزال قرى إيران تعتمد على صهاريج المياه، ويتعلم الطلاب في صفوف منازل مؤقتة، ويصطف العديد من المرضى للحصول على سرنجة بسيطة، بينما تُنفق مليارات التومانات من أموال الشعب على مسيرة الأربعين.
ووفقًا لما أعلنته اللجنة المركزية للأربعين، أنفقت الحكومة أكثر من 12 ألف مليار تومان على حل الاختناقات المرورية، وإنشاء الطرق، وتسهيل تنقل الزائرين.
ويبلغ مجموع البنود الرسمية للميزانية لعام 2024، التي ذكرت صراحةً "الأربعين"، نحو 1200 مليار تومان.
كما خصصت بلدية طهران وحدها 170 مليار تومان لهذا الحدث في عام واحد، فيما أقرت الحكومة في 2025 مبلغ 400 مليار تومان لمواجهة الحرارة والأمراض المعدية على طول مسار الزائرين.
بين 27 يوليو (تموز) و12 أغسطس (آب)، وفقًا لإحصاءات شرطة المرور، فقد 125 شخصًا حياتهم وجرح نحو 2900 آخرين في خمس محافظات حدودية فقط. تكشف هذه الخسائر الكبيرة، جنبًا إلى جنب مع الازدحام الهائل، عن قصور البنية التحتية. ورغم الإنفاق الضخم العام الماضي لتحسينها، لم تُنشر أي تقارير عن التكاليف الفعلية هذا العام.
كما أن البيانات اليومية والمفصلة عن أنواع الرحلات والمسارات وعودة الزائرين غير متاحة للعامة، والتقارير الحكومية غالبًا ما تُستخدم لأغراض تضخيم سياسي.
المشكلة ليست في الزيارة نفسها، ولا في المعتقدات الدينية للناس، بل في فرض إنفاق مليارات على مراسم سياسية–دينية على كاهل شعب يُطلب منه الاعتماد على الدعاء لتلبية احتياجاته الأساسية.
في بلد شبكة الكهرباء فيه متدهورة، والأدوية نادرة، والشعب بلا ماء، وظل الحرب يخيم، يصبح الاختيار بين توفير "المياه والكهرباء" أو إنفاقها على "مناورة القوة" قرارًا سياسيًا واعيًا يظهر أن النظام يعتبر "العطش والظلام" أرخص من "الوعي والمساءلة".
حتى مع الاحترام للتجربة الروحية لملايين المؤمنين، تبقى مسيرة الأربعين، على مستوى السياسة العامة في إيران، مشروعًا يخدم عرض السلطة؛ مشروع مكلف، بعوائد سياسية للنظام، وفاتورة باهظة على المواطنين.