على مر التاريخ، كانت هناك أنظمة لا تستطيع تعريف نفسها من دون وجود عدو. فهي تحتاج للحفاظ على شرعيتها بأن توجه الاتهام دائمًا لشخص أو لشيء خارج عن ذاتها. هذا العدو أحيانًا يكون حقيقيًا، وأحيانًا وهميًا، وأحيانًا يكرّر الكذب عنه حتى أن النظام نفسه يبدأ في تصديقه.
في رواية 1984 لجورج أورويل، يصوّر النظام الشمولي وجهًا مجهولًا كعدو رقم واحد للأمة. لا أحد رآه عن قرب، ولا أحد متأكد إن كان موجودًا فعلًا أم لا، لكن صورته تُعرض يوميًا على شاشات ضخمة. يُطلب من الناس أن يسبّوه، ويكرهوه، وأن يحمّلوه كل مشكلات البلاد.
هذا العدو الافتراضي لا وجود له جسديًا لكنه حاضر نفسيًا في كل مكان. يكفي أن يصدقه الناس، ويكفي أن يخافوا منه.
وفي ظل هذا الخوف، يقيّد النظام الحريات، ويعتقل المحتجين، ويغلق الإعلام، ويصوّر أي نقد على أنه خيانة. لأنه في أوقات الأزمات، لا يطرح أحد الأسئلة. وفي ظل التهديد، يكون النظام دائمًا على حق.
هذه ليست مجرد قصة. التاريخ برهن مرارًا كيف يمكن للسلطة أن تصنع عدوًا من العدم.
أحد أبرز الأمثلة على خلق العدو كان في ألمانيا خلال ثلاثينيات القرن العشرين.
بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى، غرقت ألمانيا في الظلام. الفقر والمهانة والبطالة واليأس عمّت البلاد. كان الناس يبحثون عن منقذ. دخل حزب النازي بقيادة أدولف هتلر، ونسب كل المشكلات إلى عدو معين: اليهود.
ورد في برنامج الحزب النازي أن فقط من يحمل الدم الألماني له حق المواطنة. ووصف اليهود بأنهم "غير ألمان"، و"بلا جذور"، و"خطرون"، و"متسللون"، و"مصدر فساد".
لكن عداوة النازيين لم تقتصر على اليهود، بل توسعت لتشمل الغجر، والمثليين، والمرضى النفسيين، والمثليين الجنسيين، والشيوعيين، وحتى من "يختلفون" فقط.
قال جوزيف غوبلز، وزير الدعاية النازي، جملة تلخّص فلسفة خلق العدو: "نحن لا نحتاج إلى صديق، بل إلى عدو".
من وجهة نظره، حين يعجز النظام عن توفير لقمة العيش، والرفاهية، والأمن، أو حتى خبز اليوم للناس، يجب أن يشغل عقولهم بالخوف بدلاً من الواقع. أن يخلق عدوًا يهددهم باستمرار، ويبقيهم في حالة "دفاع" دائمة.
في هذه الظروف، لا يوجّه الناس غضبهم للنظام فحسب، بل يطالبون بالقمع والحرب بأنفسهم. هذه هي ذروة قوة الدعاية.
النظام الإيراني.. يعيش من العدو
في إيران، جعل النظام الإيراني خلق العدو منذ البداية أحد أعمدة بقائه.
يكفي النظر إلى الشعارات الرسمية، والخطابات الحكومية، وحتى أخبار التلفزيون الرسمي: هناك دائمًا عدو يتآمر، يخرب، يتسلل، يخطط لهجوم، لفتنة، لخداع الشباب.
في هذا النظام، إذا لم يكن هناك عدو، يجب أن يُصنع واحد، لأنه إذا لم يكن هناك عدو، فمن سيرد على الغلاء، والقمع، والرقابة، والفساد، والتمييز، والظلم؟
على مدى السنوات، توسعَت قائمة الأعداء الداخليين والخارجيين يومًا بعد يوم؛ من أميركا وإسرائيل إلى الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، ومن البهائيين والدراويش إلى النساء المحتجات، والصحفيين، والعمال، والمعلمين، والمشاهير، وحتى المراهقين الذين يرفعون الشعارات في الشارع.
في هذه القائمة، يأتي الأعداء ويرحلون، لكن السياسة لا تتغير؛ بالأمس كان الليبراليون واليساريون هم العدو، واليوم هو فتاة تخلع حجابها، أو حتى تكره الحرب.
كان اليساريون من أولى المجموعات التي وقعت ضحية لسياسة إقصاء النظام الإيراني.
المنظمات التي شاركت في الثورة، من فدائي خلق إلى المجاهدين، ومن حزب "توده" إلى مجالس العمال، سرعان ما أصبحت "ضد الثورة"، و"مرتبطة بالأجانب"، و"ضد الدين".
اعتُقل الآلاف منهم وتعرّضوا للتعذيب، وأُعدم المئات، خصوصًا في صيف 1988 في مأساة تاريخية.
لكن القضية لم تكن فقط القمع الجسدي. حاول النظام الإيراني محو الذاكرة التاريخية لليساريين. وحتى اليوم، في أوساط المعارضة، تتكرر أحيانًا هذه النظرة الأمنية. لا يزال اليساريون متهمين؛ بالتسلل، أو التواطؤ، أو السذاجة.
أما البهائيون، فمنذ البداية كانوا هدفًا للإقصاء الكامل. رُبط اسمهم في الإعلام بعبارة "الفرقة الضالة". حُرموا من الدراسة الجامعية، وفُصلوا من العمل في المؤسسات، وتعرضت بيوتهم وأماكن عبادتهم للتدمير، وحتى قبورهم لم تسلم من الاعتداء.
سياسة النظام الإيراني تجاه البهائيين ليست قمعًا فقط، بل مشروعًا لـ"الاختفاء الاجتماعي".
الهدف أن ينسى الناس حتى أن بهائيًا عاش يومًا في جوارهم.
عندما نصنع نحن الأعداء
سياسة خلق العدو ليست حكراً على الأنظمة، وأحيانًا تنتقل هذه العقلية إلى المجتمع. بين العديد من جماعات المعارضة، ووسائل الإعلام، وحتى مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، يتحول خلق العدو إلى أداة لإقصاء المعارض.
يكفي أن يعبر أحدهم عن رأي مختلف، ليُتّهم فورًا بأنه "جاسوس"، أو "عميل"، أو "خائن".
إذا أردنا بناء ديمقراطية، وإذا أردنا أن تتشكل فضاءات للحوار، يجب أن نتجاوز هذا المنظور، لأنه لا مجتمع يبنى على الوهم والعداء. الوضع الحالي في إيران وتشرذم المجتمع هو نتيجة لهذه السياسات المتكررة لخلق الأعداء.
السلطة، عندما لا تكون مسؤولة، تخلق أعداء. هذه قصة تاريخية متكررة، من ألمانيا النازية إلى إيران اليوم، من وجه وهمي في الروايات إلى أشخاص حقيقيين يتم إقصاؤهم يوميًا.
ونحن أيضًا جزء من هذه القصة. عندما نصمت، وعندما نطلق الاتهامات، وعندما لا نتسامح مع الاختلاف، نساهم في دورة خلق العدو.
في المجتمعات المتقدمة، يُعدّ الاختلاف جزءًا طبيعيًا من الحياة الاجتماعية؛ يمكن للناس أن يعبّروا عن آرائهم المتباينة دون أن يُنظر إليهم كتهديد أو يُوصَموا بالخيانة.. في هذه البيئات، لا مكان لـ"العدو"، لأن القانون، والإعلام الحر، والتعليم العام علموا الناس أن الخلاف ليس سببًا للخوف بل علامة على الحيوية.