قوة بلا اقتدار.. أزمة بنيوية في النظام الإيراني

في ظل غياب دام 24 يومًا للمرشد الإيراني علي خامنئي، لم تكن المسألة أمنية فحسب، بل كانت مؤشرًا عميقًا على أزمة أكبر في بنية السلطة داخل نظام طهران، وهي زوال "الاقتدار".
في ظل غياب دام 24 يومًا للمرشد الإيراني علي خامنئي، لم تكن المسألة أمنية فحسب، بل كانت مؤشرًا عميقًا على أزمة أكبر في بنية السلطة داخل نظام طهران، وهي زوال "الاقتدار".
الاقتدار الذي كان، حتى في ذروة القمع، يستند إلى بعض مرتكزات القبول الشعبي، وصياغة السرديات، وشعورٍ بالتماسك، تقلّص اليوم إلى مشاهد كاريكاتورية من التملّق، والعجز، والخوف، في ظلّ صمتٍ مطبق للمرشد، وقلق ظاهر في أوساط مؤيديه.
وخلال فترة الغياب تلك، وخصوصًا بعدها، تم نشر مشاهد من المديح المفرط وكتابات مليئة بالمبالغة، لم تكن تعبيرًا عن يقين، بل كانت محاولة لترميم الفراغ، الذي خلفه غياب المرشد. حتى أشدّ المؤيدين لخامنئي لم يتمكنوا من كبح الحديث عن مسألة "الخلافة"، وهي مسألة كانت سابقًا بمثابة "تابو مقدس". أما اليوم، فقد اضطُر النظام نفسه إلى الاعتماد على أدوات خارجية- أي القمع- بدلاً من الركون إلى اقتدار داخلي.
"الاقتدار" لا يمكن أن يتحقق إلا إذا استند إلى سردية كبرى تحظى بقبول شعبي. سرديات يعتبرها المجتمع، حتى في الأوقات العصيبة، "ذات مغزى" و"جديرة بالدفاع عنها". فالنظام الإيراني منذ نشأته قام على سردية متعددة الطبقات: مزج التقاليد الدينية مع طموحات العدالة، ومقاومة "العدو"، وحماية الأمن القومي.
أما اليوم، فقد انهارت تلك السردية فعليًا، وما تبقى منها ليس سوى شعارات مكررة خالية من التأثير، لم تعد تثير الحماسة حتى في أوساط الموالين للنظام. الأجيال الجديدة لا تتفاعل مع تلك السردية، بل تعيش واقعًا يتناقض معها.
وبحسب عالم الاجتماع الأميركي، تالكوت بارسونز، فإن الاقتدار السياسي لا يكون فاعلاً، إلا عندما تُعتبر الالتزامات الاجتماعية "مشروعة" ومتوافقة مع "معتقدات الناس، وأهدافهم، وقيمهم".
ويقول: "السلطة هي القدرة المعممة على ضمان تنفيذ الالتزامات الإلزامية داخل النظام الجمعي. وتكون هذه السلطة فاعلة عندما تؤدي شرعية الالتزامات إلى قبول طوعي لها".
أما اليوم، فلم يعد هناك أي شرعية، ولا حتى مؤشرات على "القبول القسري". فالشعب، وبالأخص جيل الشباب، لا يتفاعل مع النظام، بل لم يعد يؤمن بأي نوع من التفاعل المعنوي معه، ما تبقى هو القوّة فقط.
ويقول الفيلسوف السياسي البريطاني، ميل تومبسون، في أحد تعريفاته المحورية: "ثمة فرق بين السلطة والاقتدار؛ السلطة هي القدرة على تنفيذ شيء ما، أما الاقتدار فهو الحق في تنفيذ ذلك الشيء".
ويضيف: "الحكم العسكري قد يتمكن من السيطرة على الناس عبر الرعب، لكن ذلك لا يعني أنه يمتلك الشرعية أو الاقتدار للقيام بذلك. فالاقتدار يتطلب رضا الشعب واتفاقًا ضمنيًا بين الحاكم والمحكوم".
وقد فقد النظام الإيراني بوضوح اقتداره، خصوصًا خلال العقد الأخير، ولم يتبقَ له سوى أدوات السلطة: السلطة القضائية، قوى الأمن، الحرس الثوري، الأجهزة الاستخباراتية، وجيوش إلكترونية. لكنها تفتقر إلى "شرعية" استخدام هذه الأدوات.
والسلطة دون اقتدار هي سلطة مستنزفة في نهاية المطاف. الأنظمة التي تعتمد فقط على القوّة، حتى وإن استمرت لفترة، فهي دومًا معرضة لعدم الاستقرار الداخلي ولتهديدات بعيدة المدى، لأن الطاعة من دون رضا، تتحول عاجلاً أو آجلاً إلى مقاومة، وإنْ كانت صامتة.
وفي عصر المعلومات والاتصالات، لم تعد السلطة تُستمد فقط من فوهة البندقية.
ويؤكد واضع نظرية "القوة الناعمة"، جوزيف ناي، أن "القوة الناعمة هي القدرة على التأثير من خلال الإقناع، لا الإكراه. أي أن تتمكن الدولة من استخدام جاذبيتها الثقافية أو القيمية أو الإعلامية لدفع الآخرين إلى الامتثال".
وحاول النظام الإيراني، عبر فهمه السطحي لهذا المفهوم، استبدال الشرعية الحقيقية بـ "حرب إعلامية"، فأنفق ميزانيات ضخمة لتأسيس جيوش إلكترونية، ووكالات إعلامية مموّهة، وشبكات دعائية في الداخل والخارج. لكنه فشل ليس فقط في خلق جاذبية، بل تحوّلت تلك الأدوات إلى جزء من أزمة الشرعية نفسها. فالمتلقي اليوم أكثر وعيًا وتعقيدًا من أن يُخدَع بسهولة بدعاية ممجوجة.
والأهم من ذلك، حتى داخل البلاد، فإن آلة النظام الإعلامية فقدت فاعليتها بسبب التناقضات، والأكاذيب، والرقابة المفرطة، وإنكار الحقائق. فبالنسبة للمواطن الإيراني، الصوت الرسمي للنظام لم يعد مصدر ثقة، بل بات رمزًا لـ "تشويه الحقيقة".
ولا يزال النظام الإيراني قائمًا، فجهاز القمع يعمل، والدعاية نشطة، والمعارضون يُلاحقون. لكن هذا الاستمرار لم يعد مؤشرًا على الاقتدار، بل أصبح مجرّد علامة على امتلاك السلطة. وهي سلطة بلا جذور، خالية من المعنى، بلا أفق.
ولو اعتبرنا الاقتدار كالبناء، فإن النظام الإيراني اليوم لا يحتفظ سوى بالجدران الخارجية: العنف، التهديد، القمع. أما الداخل فقد انهار منذ زمن: الثقة العامة، المشاركة الحقيقية، السردية المشروعة، التماسك الوطني، وآفاق التنمية.
في مثل هذا الوضع، لم يعد السؤال الرئيس هو: كيف سيتصرف النظام؟ بل أصبح: إلى متى يمكن لحكمٍ بلا اقتدار أن يستمر؟