هل يملك النظام الإيراني الإرادة والقدرة على التحول إلى "دولة طبيعية"؟

تتردّد بعض الهمسات مفادها أنه إذا تم السماح للنظام الإيراني بالبقاء، فإنه مستعد لتقديم بعض التنازلات.
تتردّد بعض الهمسات مفادها أنه إذا تم السماح للنظام الإيراني بالبقاء، فإنه مستعد لتقديم بعض التنازلات.
وقد سُمِع أن جزءًا من أجهزة السلطة، لا سيما بعد التحولات الإقليمية وتراجع المكانة الدولية لإيران، يسعى إلى تقديم صورة أكثر اعتدالاً للنظام. لكن، هل يملك هذا النظام حقًا القدرة والإرادة للتحول إلى "دولة طبيعية"؟
وتقف إيران مرة أخرى عند مفترق سياسي مصيري؛ فمن جهة، اقتراب نهاية قيادة المرشد علي خامنئي وإمكانية حدوث انتقال في رأس هرم السلطة، ومن جهة أخرى، عودة الخطاب "الإصلاحي" من قِبل بعض الشخصيات والتيارات السياسية الإصلاحية، التي تبشّر بإمكانية عودة إيران إلى وضع "طبيعي"؛ أي إلى حكومة قادرة على التفاعل مع المجتمع الدولي، وفتح البنى المغلقة، وإحياء الفضاء المدني.
نحن أمام تعبير غير رسمي، وليس مصطلحًا فنيًا راسخًا في العلوم السياسية. فمصطلح "الدولة الطبيعية" لا يظهر كمصطلح رسمي في الأدبيات النظرية والأكاديمية للعلوم السياسية، لكن في الخطاب السياسي والإعلامي، لا سيما في التحليلات الصحفية أو نظريات الانتقال السياسي، أو بالمقارنة مع الأنظمة الاستبدادية أو الغارقة في الأزمات، يُستخدم أحيانًا كتوصيف.
والمفاهيم الأقرب له في النصوص الأكاديمية تشمل: "الدولة القائمة على سيادة القانون"، "الديمقراطية الليبرالية"، "الدولة المسؤولة والخاضعة للمساءلة"، و"الدولة ذات الكفاءة" في تقديم الخدمات العامة، وحفظ الأمن، وتنظيم الاقتصاد.
وفي بعض النظريات السياسية، مثل أفكار المفكر الألماني، كارل شميت، يُقابل "النظام العادي" بـ "النظام الاستثنائي"؛ حيث تستغل السلطة الأزمة الدائمة لتبرير الاستبداد. ومِن ثمّ، فإن "الدولة الطبيعية" ليست مفهومًا دقيقًا أو علميًا، بل هو تعبير وصفي يُستخدم عادة للإشارة إلى أنظمة لا تعيش على الأزمات، وتقوم على القانون والمساءلة.
الدولة "الطبيعية" هي النظام الذي لا يعيش في حالة صدام دائم مع شعبه أو مع المجتمع الدولي، ويعترف بحقوق المواطنين، ويتيح المشاركة السياسية الحقيقية، ويملك مؤسسات مستقلة وخاضعة للمساءلة، ولا يستخدم الأمن كأداة للقمع. في مثل هذا النظام، يُصاغ الدستور على أساس سيادة الشعب والمساواة القانونية. وللناس دور في اختيار قادتهم، ويختارون نمط حياتهم بحرية، ويتمتعون بحرية التعبير والإعلام، ولا يُجابهون بالقمع العنيف عند الاعتراض.
لقد قام النظام الإيراني على تركز السلطة؛ فالمادة 110 من الدستور تمنح المرشد صلاحيات واسعة، من تحديد السياسات العامة للنظام إلى قيادة القوات المسلحة، وتعيين وعزل كبار القضاة، وتعيين رئيس هيئة الإذاعة والتلفزيون وأعضاء مجلس صيانة الدستور. المرشد لا يُنتخب مباشرة من قِبل الشعب، ولا يخضع لأي مؤسسة مستقلة للمساءلة، كما أن الدستور لا يتضمن آلية واقعية لعزله.
أما مؤسسات، مثل مجلس صيانة الدستور، فهي عبر رقابتها التصحيحية، تُلغي إمكانية إجراء انتخابات تنافسية. والسلطة القضائية، بدلًا من أن تكون مؤسسة عدل، تحولت إلى ذراع للقمع السياسي، وتفتقر إلى الاستقلال عن المرشد، كما أن الأجهزة الأمنية، مثل الحرس الثوري ووزارة الاستخبارات، تخضع مباشرة لقيادة المرشد، وليس للحكومة المنتخبة.
أما الإعلام الحر، والأحزاب المستقلة، والمنظمات المدنية، فإما جرى قمعها بالكامل أو أُخضعت لسيطرة النظام. فالدستور، بدلاً من أن يقيّد السلطة، يقوم بتكريسها وتعزيزها.
منذ 23 مايو (أيار) 1997 وحتى انتخابات 2021، توجه المجتمع الإيراني مرارًا إلى صناديق الاقتراع، على أمل تحقيق إصلاحات من داخل النظام؛ لكن في كل مرة، انتهى الأمر بخيبة أمل وقمع وانسداد أكبر. ففترة محمد خاتمي انتهت بالاغتيالات المتسلسلة، والإغلاق الواسع للصحف، وتضييق الحريات المدنية. وفترة حسن روحاني، التي جاءت بوعود الاعتدال والانفتاح، شهدت قمع احتجاجات يناير (كانون الثاني) 2018 ونوفمبر (تشرين الثاني) 2019، ومع خلفه إبراهيم رئيسي بلغت ذروتها مع مقتل الشابة الإيرانية، مهسا أميني، المفجع أثناء احتجازها لدى "شرطة الأخلاق".
ويقول العديد من المحللين الإيرانيين، بمن فيهم مصطفى تاج زاده وسعيد حجاريان وبعض النواب السابقين، إن الإصلاح لم يعد ممكنًا من داخل هذا الهيكل. ففي كثير من الأحيان، تحوّل "الإصلاحيون" إلى صمام أمان لتنفيس ضغط الشارع، لا إلى قوة تغيير حقيقية.
صرّح المرشد الإيراني، علي خامنئي، مرارًا خلال أعوام: 2016 و2018 و2021 بأن "هيكل النظام" لا يحتاج إلى إصلاح، واعتبر كل دعوة للتغيير "مؤامرة من الأعداء". وهذا الموقف الرسمي يتكرر على مختلف مستويات السلطة.
وتقوم الآلة الإعلامية للنظام الإيراني، من وسائل الإعلام المرتبطة بمكتب المرشد إلى القنوات الرسمية، بإعادة إنتاج خطاب موحد: "حفظ النظام من أوجب الواجبات". وفي مثل هذا النظام، لا يُعد التغيير مرغوبًا فيه، بل يُعتبر تهديدًا.
حركة "المرأة.. الحياة.. الحرية" والمطالبة بالتغيير
شكّلت الاحتجاجات الواسعة عام 2022، التي اندلعت تحت شعار "المرأة.. الحياة.. الحرية"، نقطة تحول في الوعي السياسي للمجتمع؛ فقد أبرزت، من خلال انتشارها الجغرافي، وتنوعها الطبقي، وقيادتها الميدانية من قًبل الجيل الشاب، أن المجتمع الإيراني تجاوز مرحلة "المطالبة بالإصلاح" إلى مرحلة "المطالبة بالتغيير". وقد أظهرت استطلاعات رأي موثوقة أن أغلبية المجتمع، وخاصة الشباب، لم تعد تؤمن بإمكانية الإصلاح من داخل النظام.
ومثّل هذا التحول الذهني نهاية الشرعية السياسية للنظام الإيراني داخل المجتمع. والمطلب العام اليوم هو بناء نظام جديد قائم على إرادة الشعب، وسيادة القانون، والعدالة الاجتماعية، والحريات الأساسية؛ لا بقاء نظام يسعى فقط إلى الاستمرار.
إذا كان "أن تصبح دولة طبيعية" يعني الانتقال إلى نظام عرفي، خاضع للمساءلة، وديمقراطي، وقائم على حقوق الإنسان، فإن النظام الإيراني، من حيث البنية، والدستور، والتجربة التاريخية، وإرادة القادة الحاليين، تفتقر إلى أي قدرة على هذا التحول. فحتى لو تُوفيّ علي خامنئي، فإن لم تتغير البنية، فلن يختلف خليفته عنه في شيء.
وتُظهر تجارب الدول السلطوية أن تغيير القائد، دون تغيير الهيكل، لا يجلب الإصلاح. وما حدث في الصين بعد "ماو"، والاتحاد السوفيتي بعد "ستالين"، أو كوبا بعد "كاسترو"، دليل على أن "الانتقال الحقيقي" يحتاج إلى تغيير في القانون، والمؤسسات، والثقافة السياسية، وليس فقط في الوجوه.
والنظام الإيراني، في جوهره، لم يُبنَ للإصلاح؛ بل قام لترسيخ السلطة، والقضاء على كل تهديد لبقائها.