"تاسيان".. رواية عاطفية لإعادة كتابة الذاكرة السياسية

في مسلسل "تاسيان" من إخراج تينا باكروان، يغيب الوجه القمعي المعتاد لعناصر السافاك، ويُستبدل بصورة رجل حائر، يحمل نظرات حزينة وتعلّقاً عاطفياً غير مكتمل.
في مسلسل "تاسيان" من إخراج تينا باكروان، يغيب الوجه القمعي المعتاد لعناصر السافاك، ويُستبدل بصورة رجل حائر، يحمل نظرات حزينة وتعلّقاً عاطفياً غير مكتمل.
في وقت لم يتجاوز فيه بعدُ المجتمع آثار عنف الأجهزة الأمنية، فإن مثل هذا التصوير للماضي لا يُعد مجرد اختيار لسياق قصصي، بل هو محاولة للتلاعب بالذاكرة الجمعية، وربما لترميم وجوهٍ تبدو أقرب إلى الحاضر منها إلى الماضي.
توقّف بث الحلقات الأولى من المسلسل لبعض الوقت؛ وهو حدث اعتبرته بعض وسائل الإعلام مؤشراً على جرأة الرواية. لكن عودة المسلسل دون أي تغيير، أوضحت سريعاً أننا أمام تكتيك دعائي؛ توقّف مُتحكَّم فيه لخلق انطباع بوجود جو نقدي. هذا النموذج سبق أن تكرّر؛ حيلة مألوفة يتم فيها استخدام الرقابة لا لإسكات الصوت، بل لمنح الشرعية لنفس الصوت المسموح به.
شخصية "أمير"، عنصر السافاك، يدخل الجهاز الأمني بدافع الحب والحماية لا القمع. هذا المسار يفصل البنية السردية عن الحقيقة التاريخية، فجهاز السافاك، المسؤول عن تعقّب وتعذيب وتصفيه المعارضين، يُقدَّم هذه المرة بوجه نبيل ومعذَّب.
المسلسل محاولة لفصل الصورة الفردية للعنصر الأمني عن مسؤوليته المؤسسية، تماماً كما في الروايات الرسمية اليوم، حيث لا يُصوَّر المنتسبون إلى البُنى القمعية كفاعلي عنف، بل كأشخاص عاديين لهم همومهم الشخصية.
كانت السبعينيات مرحلة مشبعة بالسياسة، من الجامعات حتى المنازل. لكن في "تاسيان"، تم تغييب السياسة، وصوت المقاومة صامت. الشخصيات المعارضة سطحية أو متطرفة، وحواراتها أقرب إلى منولوجات غاضبة منها إلى تحليلات سياسية.
في غياب سردية النضال، يصبح العنصر الأمني هو السردية الوحيدة ذات الشرعية في المسلسل.
وبدلاً من أن يوضع المشاهد بين طرفَي التاريخ، يرى زاوية واحدة فقط، وما هو غائب أخطر مما هو حاضر.
هل نحن أمام رمادية إنسانية أم تبييض متعمّد؟
الأدب المعاصر تقبّل الشخصيات الرمادية؛ أولئك المترددين بين الخير والشر. لكن "أمير" في "تاسيان" يظهر منذ البداية كضحية لا كفاعل. يتجنب إطلاق النار، يعيش في حيرة، ولا يواجه مطلقاً تبعات دوره الأمني.
لسنا أمام شخصية رمادية حقيقية، بل أمام تطهير لهوية ما زالت في الذاكرة الجمعية مسؤولة عن القمع والسيطرة، كما هو الحال اليوم في السردية الرسمية، التي تقدّم بعض الأجهزة الأمنية لا كأذرع للقمع بل كحماة للنظام والأخلاق.
المسلسل موجَّه إلى جيل لم يعش عقد السبعينات ولا يملك صورة واضحة عنه. في ظل هذا الغياب، عندما يُقدَّم العنصر الأمني بوجه إنساني وتُهمَّش المقاومة، تترسّخ الرواية الرسمية: أن السلطة لم تكن خطرة، وأن القمع كان مجرّد سوء فهم في ماضٍ بعيد.
هذه الإعادة للكتابة لا تهدف إلى فهم الماضي بقدر ما تسعى إلى جعل وجه السلطة الحالي يبدو طبيعياً؛ الوجه الذي لا يزال يُظلّل الجامعات والشوارع والمنازل بثقله.
"تاسيان" مسلسل متقَن، بإطارات بصرية دقيقة وأداءات محسوبة. لكن جماله لا يُشكّل سوى نصف القصة. النصف الآخر هو سردية تصنع من العنصر الأمني وجهاً إنسانياً، فيما تُقصى المقاومة من المشهد.
هذه السردية، وإن سارت في هدوء شعري وتحت أضواء خافتة، فإنها في النهاية تحرم المشاهد من إصدار حكم على السلطة، ولهذا السبب تحديداً، ينبغي أخذها بجدية.