ولكن وفق النظريات الكلاسيكية في العلوم السياسية، لا يؤدي المجتمع المدني إلى الديمقراطية إلا عندما تكون الشروط المسبقة متوفرة، ويُسمح له بالعمل المستقل داخل هيكل الدولة.
ولتقييم هذا المسار في إيران، يجب تحليل الهيكل المعقد والمتعدد الطبقات للنظام الإيراني.
ويمكن تصنيف النظام الإيراني في عقده الخامس كواحد من الأنظمة السلطوية، من خلال عدة سمات بارزة: هندسة المنافسة السياسية، وفرض الأيديولوجيا الرسمية، وقمع المؤسسات المستقلة، وتركيز السلطة بيد فئة ضيقة.
ويعتبر هذا النظام نموذجًا نادرًا يمزج بين أنواع متعددة من السلطوية، عبر أسس مترابطة:
1- الهيمنة الأيديولوجية: تقوم على شرعية دينية متصلبة مستندة إلى تفسير معين للمذهب الشيعي، وتُروّج عبر آلاف المؤسسات الحكومية، وشبه الحكومية مثل منظمة الدعاية الإسلامية، والحوزات، وممثلي الولي الفقيه.
2- الهيمنة العسكرية: يديرها الحرس الثوري والباسيج، وتهدف إلى فرض أمن محلي وشامل على شكل "فسيفسائي" على المستويات الوطنية والمحلية.
3- الهيمنة الشرطية: تُمارَس من خلال القوات الأمنية الكلاسيكية ووحدات مكافحة الشغب، مع مهام دينية في المجالين الثقافي والاجتماعي.
4- الهيمنة الأمنية: تعتمد على شبكات استخباراتية متداخلة وغير خاضعة لأي التزام حقوقي أو مهني.
5- الهيمنة البيروقراطية: تستند إلى جهاز إداري ضخم وغير فعال يهدف إلى تقويض الضغط الاجتماعي والتحكم في الحياة الخاصة والعامة للمواطنين.
6- الهيمنة الاقتصادية: تتم من خلال شبكات واسعة قائمة على الريع النفطي، تغذي الدولة ومؤسساتها الموالية.
وإذا كانت أنظمة مثل صدام حسين، أو القذافي، أو الاتحاد السوفيتي، تستند إلى واحدة أو اثنتين من هذه الدعائم، فإن النظام الإيراني جمع كل هذه الأركان معًا، مما يجعله حالة فريدة.
هل يمكن للمجتمع المدني أن يكون آلية انتقال في هذا السياق؟
بعد الحرب الباردة وسقوط الكتلة الشرقية في أوروبا، طُرح المجتمع المدني كآلية انتقال سلمي نحو الديمقراطية، واعتُبر شرطًا للمساعدات الدولية. لكن باحثين، مثل لاري دايموند وتوماس كارذرز، ناقشوا لاحقًا محدودية هذه الوصفة في ظل الأنظمة السلطوية.
وأوضح الباحث في مركز سياسة الشرق الأوسط بمعهد بروكينغز الأميركي، ستيفن هايدمان، في تحليله لمجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كيف وظّفت الأنظمة الاستبدادية المؤسسات المدنية لتعزيز سلطتها.
وفي إيران، كما في دول الجوار، شهدت فترة حكومة الرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، في التسعينيات ميلاً عامًا إلى تأسيس منظمات غير حكومية، لكن كثيرًا من هذه المؤسسات فَقَدت استقلالها لاحقًا تحت تأثير التمويل أو الرقابة الإدارية والأمنية والقانونية.
وواجه جيل النشطاء السياسيين والإعلاميين، الذين نشأوا في عهد خاتمي، لاحقًا، مصيرًا مشتركًا: السجن، المحاكمات، اتهامات بـ "التجسس" أو «الثورات الملونة»، أو القبول بخطاب النظام للبقاء.
واليوم، معظم المؤسسات المدنية الإيرانية، إما باتت تحت رقابة مباشرة لوزارة الداخلية والحرس الثوري والباسيج والمخابرات، أو تحولت إلى أدوات خاضعة بالكامل للسلطة.
وحتى بعض المنظمات، التي تحمل اسم "حقوق الإنسان"، لها روابط بنيوية أو خطابية مع النظام. ويشرح نموذج "الكوبراتية السلطوية" كيف تقوم الأنظمة بتطويع منظمات المجتمع المدني لإضفاء طابع تنافسي زائف على الساحة السياسية.
وهذا الوضع أفقد المجتمع المدني الإيراني الناشئ روحه الناقدة واستقلاله، بل جعله أحيانًا أداة لمنح الشرعية للنظام، بدل أن يكون محركًا للتغيير.
وفي موازاة المجتمع المدني، اكتسب مفهوم "النضال السلمي" رواجًا بين بعض معارضي النظام الإيراني.
ولكنّ هناك شرطين أساسيين لهذا الخيار:
1- أن يكون الهدف تغييرات جزئية أو سياسات معينة، وليس إسقاط النظام بكامله.
2- وجود قضاء مستقل وآليات للعدالة كي يكون لهذا النضال فاعلية.
وأثبتت تجارب "الثورات الملونة" في أوروبا الشرقية أن النضال السلمي لا ينجح، إلا إذا كانت القبضة الأمنية للنظام رخوة، وهناك مجتمع مدني مستقل، وقنوات قضائية مفتوحة حتى لو كانت محدودة.
وفي الأنظمة القمعية الكاملة كإيران، لم يكن للنضال السلمي دور فعّال في التغيير الجذري.
حتى أشكال "العصيان المدني"، كالإضرابات وقطع الطرق، يمكن اعتبارها نوعًا من "العنف الناعم". فالبيئة السلطوية تحوّل كل مظهر احتجاجي خارج المؤسسات إلى تهديد يجب سحقه.
تجارب فاشلة متكررة
توضح تجارب التحركات الاجتماعية في إيران، خلال العقود الثلاثة الماضية، إخفاق النموذجين:
* التسعينيات (1990): محاولة الإصلاح من داخل النظام عبر حكومة خاتمي، أخفقت في تلبية تطلعات الجماهير.
* العقد الأول من الألفية (2000): احتجاجات "الحركة الخضراء" السلمية ضد تزوير الانتخابات انتهت بحبس القادة وقمع واسع.
* العقد الثاني (2010): عودة الإصلاحيين عبر حكومة روحاني لم تُحقّق حتى مطالب أساسية كحرية اللباس.
* العقد الثالث (2020): حركة «المرأة، الحياة، الحرية» كانت الأوسع والأكثر تنوعًا، لكنها رغم نجاحها الثقافي لم تنجح في إسقاط النظام.
وأظهر النظام قدرة متقدمة على استيعاب واحتواء الحركات، بل وصل إلى حد تبني شعاراتها وتفسيرها ضمن منظوره الديني، كما حدث مع شعار «المرأة، الحياة، الحرية» الذي زعم أنه يستند إلى القرآن.
ومن خلال توزيع الموارد، والقمع الأمني، والتبرير الأيديولوجي، أعاد النظام إنتاج ذاته بعد كل موجة احتجاج. والنتيجة أن جميع أشكال التحركات- السلمية أو العنيفة- اصطدمت بجدار القمع والاستيعاب.
ومن الأمثلة الواضحة على هذه الدوامة: احتجاجات ديسمبر (كانون الأول) 2017، واحتجاجات البنزين نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، وانتفاضة 2022، ومجزرة "الجمعة الدامية" في زاهدان.
وكلها انتهت بمئات القتلى وآلاف المعتقلين.
ومِن ثمّ، بات المجتمع المدني الإيراني محاصرًا بين أعمدة الأيديولوجيا، والبيروقراطية، والاقتصاد، والشرطة، والأمن، وهيكل الدولة نفسه مزوّد بأدوات تعطيل كل محاولة تغيير مدنية أو سلمية.
هذا الواقع يفرض إعادة النظر بجدية في وصفات "المجتمع المدني" و"النضال السلمي" كأدوات كافية للتخلص من النظام الإيراني.