فالاقتصاد الإيراني ليس فقط مريضًا، بل يعيش على أجهزة الإنعاش، والتضخم المنفلت خفّض من مستوى معيشة المواطنين إلى النصف خلال العقد الماضي. والتعليم، الذي كان يمكن أن يكون مفتاح التنمية، أصبح غارقًا في التسييس وشُحّ الموارد.
جيلٌ كامل حُرم من الإبداع، والتفكير النقدي، والتعليم الجيد. البيئة وصلت إلى حافة الانهيار: الأنهار، والمستنقعات، والبحيرات تجفّ واحدة تلو الأخرى، والأرض، كمكان للعيش، تغوص كل يوم أكثر في المدن الكبرى.
وهذه ليست مجرد أمثلة أو تحذيرات بسيطة؛ إنها دلائل على انهيار تدريجي. إلى جانب ذلك، فإن الأزمات النفسية والعقلية تلعب دورًا كبيرًا أيضًا. وبحسب مسؤولي الصحة في البلاد، فإن 25 في المائة من سكان إيران يعانون شكلاً من أشكال الاضطرابات النفسية.
والاكتئاب، والقلق، والشعور بانعدام القيمة في تزايد مستمر بين الشباب والمراهقين، أما هجرة النخب، التي كانت يومًا ما ظاهرة محدودة، فقد تحولت الآن إلى موجة واسعة؛ حيث يغادر عشرات الآلاف من المتخصصين، والأطباء، والمهندسين وخريجي الجامعات المرموقة البلاد كل عام.
وجيل اليوم مختلف جذريًا عن الأجيال السابقة؛ لا لأنه أفضل منها، بل لأنه نشأ في ظروف مختلفة تمامًا، هذا الجيل نشأ منذ الطفولة وسط الأزمات؛ ليس فقط الأزمات الاقتصادية أو السياسية، بل أزمة في المعنى ذاته.
فعندما تغيب الثقة في أي مؤسسة عامة، وعندما يكون التعليم بلا جودة، والإعلام الرسمي بعيدًا عن الحقيقة، ويصبح النجاح والتقدم لا يمران عبر الجدارة، يجد الشاب الإيراني نفسه أمام سؤال وجودي: لماذا أبقى؟ لماذا أُكافح؟ ولأي مستقبل؟
لكن في خضم هذه الأسئلة، توصّل هذا الجيل إلى شيء آخر: الواقعية الراديكالية؛ فلم يعد كثيرون يؤمنون بإصلاح تدريجي للنظام السياسي، ولم يعد أحد يثق في الوعود الرسمية.
ورغم أن انعدام الثقة هذا مؤلم، فإنه يشكّل في الوقت ذاته فرصة لإعادة البناء من الأسفل إلى الأعلى. جيل اليوم، بدلاً من انتظار التعليمات أو الحلول من فوق، ينظر إلى قدراته الصغيرة والجماعية.
وظهور مجموعات مستقلة، والسعي لتعلم مهارات جديدة، زيادة الوعي الرقمي، وحتى الانتفاضات الاحتجاجية- رغم قمعها- التي كسرت جدار الخوف، كلها مؤشرات على تشكل وعي جديد.
وفي عام 2022، أظهرت انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية" أن هذا الجيل يتحدث لأول مرة بلغة عالمية. شعارات هذه الانتفاضة لم تكن أيديولوجية بالية أو تقليدية، بل انبثقت من التجربة المعيشة لهذا الجيل الجديد. جيل اليوم يصوغ روايته لإيران من خلال الجسد، والصورة، والموسيقى، ووسائل الإعلام الجديدة، ويوصلها إلى العالم.
وإلى جانب هذا الوعي السياسي والاجتماعي، ينظر الشباب إلى التكنولوجيا كأداة تمكين؛ حيث إن تزايد عدد الشركات الناشئة، والأعمال الرقمية، والمبرمجين المستقلين، والإبداع في منصات مثل "إنستغرام" و"يوتيوب"، جميعها مؤشرات على سعي نحو الاستقلال عن الهياكل المتهالكة.
وقد لا تُحدث هذه الجهود تغييرًا على مستوى النظام، لكنها تخلق على الصعيدين الفردي والجماعي طاقات يمكن أن يُبنى عليها مستقبل إيران.
ومع ذلك، لا يمكن تجاهل العبء النفسي الهائل. هذا الجيل عليه أن يعيش، ويناضل، ويصنع المستقبل في آنٍ واحد. لكن في أي مجتمعٍ سليم لا تُلقى هذه المسؤوليات على عاتق الشباب، لأن هذا ليس دورهم أصلاً.
أما في إيران، فهذا العبء غير العادل هو الواقع اليومي لملايين الشباب. عليهم أن ينموا في نظامٍ تعليمي يُهينهم، ويبدعوا في بيئة يُقمع فيها الفن والفكر، ويبنوا مستقلاً في مجتمع لا يرسم لهم أي أفق.
وفي غياب المؤسسات المستقلة، تحمّل الشباب الإيراني مسؤوليات يجب أن تكون على عاتق البنى السياسية، والثقافية والاقتصادية. عليهم أن يكونوا خريطة الطريق، والسائق، والوقود في آنٍ واحد.
وهنا يطرح السؤال الجوهري نفسه: كيف يمكن ذلك؟ كيف يمكن خلق مستقبل جديد من وسط الخراب؟ الجواب: ليس بالمعجزات، ولا بالثقة في البنى المتداعية، بل بإعادة بناء العلاقات الاجتماعية بشكل تدريجي ومتصاعد. فتكوين الشبكات، الحوار العام، التعليم المستقل، العمل الجماعي وتعزيز الروح الجمعية، كلها أدوات البناء الحقيقي.
كما رأينا في الانتفاضات الاجتماعية الأخيرة، فإن قوة هذا الجيل تكمن في "أن يكونوا معًا"، وليس في انتظار المساعدة من الأعلى. هذا الجيل، على عكس الماضي، لم يعد يؤمن بالبطل الفرد؛ بطله هو الجماعة.
وفي هذا السياق، فإن بناء المستقبل لا يعني ترميم ما انهار، بل يعني تخيّل ما لم يوجد أصلاً: مجتمعٌ عادل، شفاف، وحر. وهذا هو عمل جيلٍ جُرح وأُرهق، لكنه لا يزال حيًا.
جيلٌ قد لا يملك أملًا بالمعنى الكلاسيكي، لكنه لم يفقد خياله. والخيال هو الشيء الوحيد الذي لا يمكن لقوى القمع أن تدمّره.
إيران سيُعاد بناؤها على يد هذا الجيل؛ فإعادة البناء تبدأ بالاعتراف بالدمار. وهذا الجيل قد اعترف به بالفعل؛ والآن حان وقت البناء.