فالهجوم الذي شنّته حركة حماس، و"حرب الـ 12 يومًا" بين إيران وإسرائيل في يونيو (حزيران) الماضي، والضربات الإسرائيلية المتواصلة ضد الجهات المتحالفة مع إيران، لم تُنهِ صراعات المنطقة، لكنها غيّرت الطريقة التي تدير بها الدول هذه الصراعات الآن.
وبدلاً من الدبلوماسية الكبرى أو الاتفاقيات الرسمية، بدأ يتشكّل اصطفاف فضفاض نابع من تداخل ضرورات أمنية وسياسية واقتصادية.
ويمتد هذا القوس غير الرسمي من الاستقرار من بغداد إلى دمشق، ليس كمبادرة سلام، بل كعامل يحدّ من النفوذ الإقليمي لإيران، من خلال انسجامه مع منطق «اتفاقيات أبراهام» وممارسته ضغطًا متزايدًا على شبكة الوكلاء التي استخدمتها طهران تاريخيًا لإسقاط قوتها في المنطقة.
وقد تزامن هذا التحول مع مسار إيراني موازٍ، تمثّل في تحركات دبلوماسية، لا سيما تجاه السعودية ودول عربية أخرى مجاورة، بهدف الحفاظ على هامش للمناورة حتى في الوقت الذي تتعرض فيه شبكة وكلاء طهران لضغوط متزايدة.
ويكتسب هذا النهج المزدوج أهمية خاصة، إذ يؤثر في الحسابات الإقليمية مع سعي إيران في آنٍ واحد إلى امتصاص الضغوط ومنع تبلور جبهة أكثر تماسكًا وعلنية ضدها.
العراق.. تعافٍ جزئي لكنه هش
في العراق، تكشف تداعيات الانتخابات الأخيرة، ومحاولة الحكومة القصيرة الأمد تصنيف حزب الله اللبناني والحوثيين كمنظمات إرهابية- قبل التراجع السريع عن ذلك- عن صراع أعمق حول مسألة السيادة.
وثمة كتلة ناشئة من الفاعلين السياسيين والدينيين والمؤسساتيين تدفع باتجاه تعزيز تماسك الدولة، في حين تسعى الشبكات المدعومة من إيران إلى الحفاظ على النظام الهجين المسلح- السياسي المتجذر منذ القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" في عام 2014.
وقد حذّر رجال دين بارزون مرتبطون بدائرة المرجع الأعلى، آية الله علي السيستاني، مرارًا من أن استمرار نفوذ الميليشيات يقوّض الوحدة الوطنية، ويُفرغ سلطة الدولة من مضمونها.
وفي الوقت نفسه، تُعقّد التطورات الداخلية في العراق موقع طهران. فجهود توسيع إنتاج الغاز المحلي، وتقليل الاعتماد على الواردات الإيرانية، وجذب الاستثمارات الغربية بعد انسحاب الشركات الروسية الخاضعة للعقوبات، بدأت تُعيد ببطء تشكيل الآفاق الاقتصادية.
كما أن تحسّن التنسيق- وإن كان هشًا- بين بغداد وحكومة إقليم كردستان بشأن تقاسم الإيرادات وضبط الحدود، قد ضيّق الفجوات المؤسسية التي طالما استغلتها إيران.
وتظل هذه التحولات تدريجية وغير متكافئة، كما أن استدامتها غير مؤكدة. غير أنها مجتمعة تشكّل الركيزة الأولى لإعادة اصطفاف إقليمي أوسع، يستند بدرجة أقل إلى الأيديولوجيا وبدرجة أكبر إلى قدرة الدولة والضرورة الاقتصادية.
وقد يثبت العراق أيضًا أنه الحلقة الأضعف؛ فسياساته لا تزال متقلبة، والجهات المتحالفة مع إيران تحتفظ بشبكات تنظيمية ومالية عميقة. ومع ذلك، فإن حتى مستوى محدودًا من التماسك في مجالات الأمن والطاقة والحكم من شأنه أن يُرجّح الكفة الاستراتيجية في المشرق بطرق طالما اعتُبرت غير قابلة للتحقيق.
سوريا.. استقرار حذِر وضعف بنيوي
أدى سقوط نظام بشار الأسد في سوريا قبل عام، وصعود سلطة انتقالية ذات توجهات سلفية، إلى فتح مرحلة من عدم اليقين، تتسم بمخاطر جسيمة، لكنها تفرض أيضًا قيودًا جديدة على الفاعلين الخارجيين.
ومن غير المرجح أن تنضم سوريا قريبًا إلى "اتفاقيات أبراهام"، أو أن تسعى إلى تطبيع رسمي مع إسرائيل. ومع ذلك، فإن الاتصالات الهادئة التي تشمل دمشق وإسرائيل وقطر- وتهدف إلى الحد من التداعيات، وكبح الميليشيات، وإرساء تفاهمات ضيقة بحكم الأمر الواقع- تشير إلى نشوء إطار أمني براغماتي، وإن كان حذرًا.
وقد زادت الأحداث خارج حدود سوريا من حدة الحساسيات الإقليمية.
فمحاولة إسرائيل استهداف قادة من حماس في قطر، والتي فشلت في قتل أهدافها المرصودة، أثارت قلق عدد من الشركاء العرب للولايات المتحدة، وربما أثّرت في التفكير الاستراتيجي حتى في الحالات التي ظل فيها الخطاب العلني متحفظًا.
غير أن الأثر الإقليمي الأهم يتمثل في سوريا، التي لم تعد منسجمة بالكامل مع الأولويات الاستراتيجية لإيران. فدولة سوريا آخذة في الاستقرار، ومتوافقة على نحو عام مع العراق والأردن، من شأنها أن تقيّد بشدة الممرات البرية والجوية التي استخدمتها إيران طويلاً لإمداد حزب الله في لبنان.
وتؤكد عمليات اعتراض شحنات أسلحة إيرانية عبر الأراضي السورية والأردنية، من قِبل إسرائيل والأردن في الآونة الأخيرة، أن إيران قد لا تزال تنظر إلى سوريا كنقطة عبور لأسلحتها.
نمط آخذ في التشكل
يتقاطع هذا الاصطفاف غير الرسمي بين بغداد ودمشق مع منطق «اتفاقيات أبراهام»، التي حدّدتها استراتيجية الأمن القومي الأميركية الصادرة في نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، في عهد إدارة ترامب، بوصفها أولوية للولايات المتحدة في تعزيز أمن المنطقة.
وتقدّم الوثيقة تطبيع العلاقات العربية والإسلامية مع إسرائيل لا كإنجاز تاريخي أو إرث سياسي، بل كإطار عملي يخدم أغراض الدفاع الصاروخي، والأمن البحري، فضلاً على تبادل المعلومات وتقاسم الأعباء على المستوى الإقليمي.
وبينما لا تزال السعودية وقطر وعُمان والكويت خارج الاتفاقيات رسميًا، فإن أنماط التعاون الفعلي المتزايدة- عبر تنسيق الدفاع الجوي، ودمج أنظمة الإنذار المبكر، وترتيبات الأمن البحري، وتبادل المعلومات الاستخباراتية- تشير إلى أن الاتفاقيات تعمل بالفعل كمبدأ منظِّم لدول مترددة في تقديم التزامات علنية.
فالعمود الفقري رسمي، لكن الهياكل الداعمة باتت على نحو متزايد غير رسمية، ما يُبقي الإطار قائمًا دون أن يُلزم كل مشارك بالالتزام العلني.
وتعكس اللغة المتحفظة لاستراتيجية عام 2025 تحولاً أوسع في مقاربة واشنطن؛ فبدلاً من الاعتماد أساسًا على الهيمنة الأميركية، يبدو أن الولايات المتحدة تركز الآن على احتواء إيران عبر تعزيز هياكل إقليمية مرتكزة على "اتفاقيات أبراهام"، ومكمّلة باصطفافات ناشئة في العراق وسوريا.
وعبر أرجاء المنطقة، بدأ نمط واضح في التبلور. فالتعافي المؤسسي غير المتكافئ في العراق، والاستقرار الحذر في سوريا، وتشديد الأردن لإجراءات أمن الحدود، وتوسّع التنسيق بين الدول الخليجية، والموقف الأمني الإسرائيلي المستدام، تشكّل معًا ملامح أكثر بنية مضادة تماسكًا شهدتها المنطقة منذ أكثر من عقد.
ومع ذلك، يبقى الصراع غير محسوم. فما زالت إيران تحتفظ بقدرات كبيرة، وشبكات تكيفية، وقدرة مثبتة على إعادة البناء وإعادة التكيّف.
غير أن قوس بغداد- دمشق يمثل تحديًا للاستراتيجية الإقليمية لطهران، لا يقوم على الإعلانات أو الصفقات الكبرى، بل على تداخل مصالح الدول والقيود العملية، وهو اصطفاف تشكّل بدافع الضرورة، وليس التخطيط المسبق.