وأدخلت تلك الأحداث، مدينة "مشهد" مرحلة جديدة من المواجهة بين السلطة والمجتمع. المدينة التي لطالما قُدّمت بوصفها "مدينة خامنئي" أو القاعدة الدينية للنظام، تحولت اليوم إلى ساحة مواجهة مباشرة بين السلطة من جهة، والحِداد والمطالبة بالعدالة والتضامن المدني من جهة أخرى.
ولم تكن المسألة الأساسية بالنسبة للنظام الإيراني الشعارات المتفرقة، بل اللحظة التي التقى فيها المواطنون ببعضهم؛ اللحظة التي تشابكت فيها شبكة الأصوات والتجارب والغضب المكبوت. هذا الوضع يُعد تهديدًا للمرشد علي خامنئي، وإشارة واضحة إلى تآكل السلطة داخل بنية الحكم.
مراسم عزاء تحولت إلى ساحة قمع
يوم الجمعة 12 ديسمبر (كانون الأول) 2025، أُقيمت في مسجد الغدير بمدينة مشهد مراسم "اليوم السابع" لوفاة خسرو علي كردي، المحامي ووكيل المحتجين في انتفاضة "المرأة، الحياة، الحرية". غير أن هذه المراسم سرعان ما تحولت من طقس حداد إلى ساحة اقتحام من قِبل القوات الأمنية، شملت الضرب والإهانات واعتقالات واسعة للمواطنين.
وخلال المراسم، رُفعت شعارات ضد النظام الإيراني وضد شخص علي خامنئي نفسه، وبالتوازي سُمعت هتافات داعمة لنجل شاه إيران السابق، رضا بهلوي. وكان ذلك كافيًا لتدخل القوات الأمنية وعناصر بلباس مدني؛ فتم الاعتداء على الحاضرين واعتقال عشرات الأشخاص بعنف، وترك العائلات في حالة من الغموض التام.
المعتقلون.. أسماء تُعد بحد ذاتها "خطًا أحمر"
برزت بين المعتقلين أسماء يُشكّل كل واحد منها بمفرده حساسية كبيرة بالنسبة للنظام الإيراني: نرجس محمدي، الحائزة جائزة نوبل للسلام، وعالية مطلب زاده، وسبيده قليان، وهستي أميري، وبوران ناظمي، وجواد علي كردي شقيق خسرو علي كردي، إضافة إلى عشرات النشطاء المدنيين والمواطنين العاديين.
وكانت وفاة خسرو علي كردي منذ البداية محاطة بالغموض؛ إذ يعتبر شقيقه صراحة أن ما حدث "قتل حكومي"، وما جرى في مراسم "اليوم السابع" شكّل عمليًا امتدادًا لملف القمع ذاته. وقد تحولت مشهد إلى ساحة مواجهة بين النظام والذاكرة العامة ومطلب العدالة.
الرواية الرسمية ومؤشرات التستّر
ما نعرفه واضح. فقد عُثر على جثمان خسرو علي كردي في السادس من ديسمبر الجاري داخل مكتبه في مدينة "مشهد". الرواية الرسمية للنظام تحدثت عن سكتة قلبية، إلا أن نزيف الدم من الفم والأنف، واحتمال تلقي ضربة على الرأس، ومصادرة تسجيلات 16 كاميرا مراقبة في المكتب من قِبل الأجهزة الأمنية وعدم تسليمها للعائلة، كلها تثير تساؤلات جدية.
وتعزز سيرة علي كردي هذه الشكوك؛ فهو محامي محتجين، وسجين سياسي سابق، حُرم من متابعة دراسته في مرحلة الدكتوراه، وتعرّض لسنوات من الضغوط والنفي والحرمان المهني؛ وهو نموذج مألوف من التستّر الحكومي.
التهم.. والوضع المقلق للمعتقلين
أعلن مدعي عام "مشهد" أن عدد المعتقلين بلغ 39 شخصًا، إلا أن نشطاء حقوق الإنسان يتحدثون عن اعتقال أكثر من 50 شخصًا. وقد رافقت هذه الاعتقالات أعمال ضرب وتهديد ونقل إلى مراكز احتجاز تابعة لاستخبارات الحرس ووزارة الاستخبارات. أما التهم فهي العناوين المكررة ذاتها؛ "التجمع والتواطؤ ضد الأمن القومي" و"الدعاية ضد النظام”.
وفي حالة نرجس محمدي، طُرحت حتى تهمة "التعاون مع إسرائيل". وتُوصف حالتها بأنها مقلقة للغاية؛ إذ نُقلت مرتين إلى الطوارئ، وتعرضت لتهديد مباشر، وحُرمت من حق الوصول إلى محامٍ. والمفارقة المريرة أن محامية حائزة على جائزة نوبل للسلام تُحرم من محامٍ للدفاع عن نفسها.
أما عالية مطلب زاده، وهي من بين المعتقلات أيضًا، فلا تحظى، رغم إصابتها بالسرطان، برعاية طبية مناسبة. وقد صدرت أوامر توقيف تتراوح بين شهر وثلاثة أشهر؛ وأُفرج عن بعض المعتقلين بكفالة، فيما لا يزال كثيرون رهن الاحتجاز.
ردود الفعل بين رواية السلطة والواقع
أدانت لجنة جائزة نوبل النرويجية الاعتقالات العنيفة، وطالبت بالإفراج الفوري عن جميع المعتقلين، وأعرب الاتحاد الأوروبي عن قلقه الشديد، فيما وصف أكثر من عشرين شخصية سياسية ومدنية وفنية، من جعفر بناهي إلى مصطفى ملكيان، هذه الاعتقالات بأنها استعراضية ومخطط لها مسبقًا. كما دعا ولي عهد إيران السابق، رضا بهلوي، الشعب إلى التضامن والمطالبة بالإفراج عن جميع المعتقلين.
وفي المقابل، جاءت الرواية الرسمية للنظام مختلفة؛ إذ اعتبر قائمقام "مشهد" أن الاعتقالات "مؤقتة" وناجمة عن شعارات "مخالفة للأعراف”. وادعت السلطة القضائية، عبر وكالة "ميزان" التابعة لها، أن للمعتقلين سوابق أمنية، وتحدثت عن إصابة أحد قادة الشرطة، لكنها التزمت الصمت حيال الاعتداء على المواطنين.
وأما العائلات فتتحدث عن تهديد وضغوط مباشرة، وانقطاع كامل للمعلومات، وحرمان من المحامين. ويؤكد نشطاء حقوق الإنسان أن القضية ليست رد فعل على مراسم بعينها، بل هي جزء من مسار منهجي لخنق المجتمع المدني؛ مسألة حقوقية وبنيوية، لا أمنية ظرفية.
لماذا يُعد هذا الحدث خطيرًا على السلطة؟
ما جرى لم يكن مجرد تعامل مع مراسم عزاء. فقد واجه النظام الإيراني ثلاثة عناصر يخشاها دائمًا: الذاكرة الجمعية، والمطالبة بالعدالة، وتزامن الأصوات. النظام يخشى الموتى أكثر؛ يخشى أولئك الذين صاروا من الماضي، وغابوا عنا، لكنهم طالبوا بالعدالة. عندما يرحل محامٍ لحقوق الإنسان ولا تصمت عائلته، تُقرع أجراس الخطر في أروقة السلطة.
وفي مشهد، اجتمع اسم نرجس محمدي، واسم رضا بهلوي، والغضب العام في مكان واحد. هذا التلاقي يشكّل تركيبة سامة بالنسبة لخامنئي. المشكلة لم تكن في الشعارات؛ المشكلة كانت في أن السلطة رأت الناس يلتقون. وعندما تؤكد تيارات مختلفة، رغم كل اختلافاتها، على مطلب مشترك واحد، يصبح ذلك مخيفًا لرأس السلطة، وإشارة واضحة داخل بنية الحكم إلى بداية النهاية.
وما حدث في "مشهد" كان نقطة تحوّل. مكان تحوّل فيه الحِداد إلى جريمة، و"السكتة" إلى حقيقة مخنوقة، وحلّت "الهراوة" محل الإجابة. اقتحام مراسم تذكارية والاعتقالات الواسعة للنشطاء المدنيين ليس حادثة عابرة، بل صورة مكثفة لطبيعة علاقة السلطة بمجتمع يرفض الصمت.