محتلو إيران وقتلة الإيرانيين

محتلو إيران وقتلة الإيرانيين.. برأيي، هذا هو الوصف الأدق لحكام إيران الحاليين؛ فهم من جهة يحتلّون البلاد، ومن جهة أخرى يتسبّبون في مقتل شعبها.
محلل سياسي - إيران إنترناشيونال

محتلو إيران وقتلة الإيرانيين.. برأيي، هذا هو الوصف الأدق لحكام إيران الحاليين؛ فهم من جهة يحتلّون البلاد، ومن جهة أخرى يتسبّبون في مقتل شعبها.
وهم محتلّون، لأنهم استولوا على الحكم بالقوة، ودون موافقة أغلبية الشعب، وحرموا الإيرانيين من إمكانية الاختيار الحرّ. وعلى الرغم من الغضب الشعبي الواسع، يرفضون التنحّي ويستمرّ وجودهم في السلطة عبر القمع وحده.
وليس ذلك فقط؛ فسياساتهم وممارساتهم تسببت بأذى بالغ وموتٍ واسع. يوماً برصاص المتظاهرين، ويوماً بالإعدامات الجماعية، ويوماً آخر بالفقر والغلاء وسوء التغذية، واليوم عبر التلوّث الشديد الذي يهدّد حياة آلاف البشر. لقد باتت هذه السياسات أشبه بنوع من "القتل الجماعي".
وبحسب الإحصاءات الرسمية، يموت سنوياً نحو 55 ألف شخص في إيران بسبب تلوّث الهواء؛ وهو أمر لا يمكن اعتباره مجرّد "سوء إدارة"، بل نتيجة مباشرة لسياسات مقصودة ومستمرة منذ سنوات.
وتعترف السلطات نفسها بأن جزءاً كبيراً من التلوّث سببه المركبات المتهالكة. والحلّ البديهي هو تصنيع أو استيراد سيارات ذات جودة، غير أنّ الحكومة لا تنتج سيارات جيدة ولا تسمح باستيراد السيارات الأجنبية المعيارية، لأن بقاء مصالح شبكات الفساد المرتبطة بصناعة السيارات المحلية أهمّ لديها من صحة الناس.
وفي مثل هذا النظام، تُقدّم مصالح المجموعات النافذة على أي شيء، حتى لو أدّى ذلك إلى ارتفاع وفيات التلوّث. وهذه قرارات متعمّدة ونتائجها معروفة مسبقاً.
وفي قطاع الوقود أيضاً يسود المنطق نفسه. جزء كبير من البنزين يُنتَج في وحدات بتروكيميائية لا تستوفي المعايير. والسلطات تعلم بخطورة المواد الموجودة في هذا الوقود على صحة البشر، لكنها تواصل إنتاجه وتوزيعه.
وتشير التقارير إلى خلط نحو مليوني لتر يومياً من مادة "MTBE"- المحظورة منذ سنوات في الدول المتقدمة- مع البنزين المكرر. فتعريض الشعب عمداً لمثل هذه المواد السامة لا يمكن تفسيره بالجهل أو الإهمال.
وكذلك تعتمد محطات الطاقة بشكل واسع على المازوت والديزل منخفضَي الجودة، وهو وقود شديد التلوث بحسب اعتراف المسؤولين أنفسهم.
وتُطرح ذريعة "نقص الغاز" كمبرر، لكن هذا النقص نفسه نتيجة مباشرة لسنوات من السياسات الخاطئة، والمواجهة الخارجية المكلفة، ومنع الاستثمارات الأجنبية في قطاع النفط والغاز. وفي بلد يمتلك ثاني أكبر احتياطي غاز في العالم لا ينبغي أن يواجه أزمة كهذه.
ومع تآكل البنية التحتية وعدم دخول التكنولوجيا الحديثة، تراجع إنتاج الغاز، واضطرت الدولة إلى استخدام وقود ملوّث لتأمين الكهرباء والتدفئة. وهذا أيضاً مسار مقصود على مستوى السياسة العليا، وثمنه يدفعه الشعب الإيراني.
وإلى جانب ذلك، تظهر تقارير عديدة أنّ جزءاً كبيراً من الوقود الجيد يُهرّب بدلاً من طرحه للاستهلاك الداخلي، عبر شبكات فساد منظمة مرتبطة بمراكز نفوذ مختلفة. واكتشاف خط أنابيب سريّ لتهريب وقود الطائرات في مدينة "بندرعباس"، جنوب إيران، مثال على أن هذا المستوى من التهريب لا يمكن أن يتمّ دون دعم نافذين.
وتُفرض عقوبات قاسية على اللصوص الصغار، بينما يخرج كبار المتورطين في الفساد المنظّم- بمن فيهم محكومون معروفون- بعد فترة قصيرة.
وجملة هذه الوقائع تؤكد أن تلوّث الهواء في إيران ليس نتيجة "فشل إداري" فقط، بل ثمرة سياسات متعمّدة استمرت لسنوات، وفضّلت مصالح القوى الحاكمة السياسية والاقتصادية على صحة الإيرانيين وحياتهم.


بعد الكشف عن الشروط الثلاثة الواضحة، التي وضعتها واشنطن لاستئناف الحوار، وجد النظام الإيراني نفسه في موقع لا يمكنه فيه العودة إلى الماضي، ولا القدرة على متابعة المسار السابق.
والمسألة الأساسية اليوم ليست ما إذا كان نظام خامنئي سيقبل هذه الشروط أم لا؛ بل إن السؤال الجوهري هو: لماذا يُرسم مصير أمةٍ كاملة مرة أخرى في غياب الشعب ومن خلف أبواب مغلقة؟
لقد وضع النظام الحاكم إيران في وضع لم يعد من الممكن الاستمرار فيه. فالأزمات الاقتصادية المتفاقمة، وتقلّص القدرات الردعية، وتصاعد الغضب الشعبي، دفعت البلاد إلى مسار جديد يبدو فيه أن التغيير أصبح حتميًا.
لكن اتجاه هذا التغيير- نحو تخفيف الأزمة أو نحو مزيد من عدم الاستقرار- يعتمد على قرارات لا تزال تُتخذ بدون أي مشاركة مجتمعية.
وبعد أسابيع من النفي والتناقضات وتهديد كل من تجرأ على الحديث عن "رسالة" أو "تفاوض"، اعترف مسؤولو النظام الإيراني أخيرًا بأن إدارة ترامب طرحت ثلاثة شروط محددة لبدء الحوار، وهي: وقف التخصيب، وتفكيك شبكة الوكلاء الإقليميين، وفرض قيود صارمة على البرنامج الصاروخي.
ويأتي هذا الاعتراف في وقت لم يعد فيه النظام الإيراني في موقف ضعف عسكري فحسب، بل في موقع هشاشة نفسية، ودعائية، واقتصادية أيضًا. فقد تضررت قدرتها الردعية، وتعرضت ميليشياتها الإقليمية لضغط مباشر من الولايات المتحدة وإسرائيل حتى أصبحت شبه عاجزة، بينما الاقتصاد- الذي كان يعاني أصلًا اختلالات مزمنة وتضخمًا متصاعدًا- وصل الآن إلى حافة الانهيار الكامل.
وقد سلطت واشنطن الضوء على قضايا تمثل بالنسبة للنظام الإيراني أكثر من مجرد أدوات للسياسة الخارجية؛ إنها جزء من الأعمدة الأساسية لبقاء النظام.
ويعني وقف التخصيب التراجع عن رمز أيديولوجي استثمر فيه النظام الإيراني سياسيًا على مدى عقدين، كما أن التخلي عن شبكة الوكلاء يعني فقدان الحرس الثوري أهم أدوات نفوذه الإقليمي وأحد أبرز أذرع الردع غير المباشر، والقيود على البرنامج الصاروخي تعني تقليص المجال العسكري الوحيد الذي يعتبره النظام ضمانة لبقائه.
وهذه المحاور الثلاثة كانت تُقدَّم لسنوات باعتبارها "خطًا أحمر"، لكنها اليوم تتعرض لضغط غير مسبوق، والدفاع عن الوضع القائم أصبح أصعب من أي وقت مضى.
وفي المقابل، تجد الولايات المتحدة نفسها، بعد الهجوم الأخير، في موقع قوة. فهي لم تدفع أي ثمن، وتعرف تمامًا أن طهران اليوم لا تملك القدرة على فرض شروطها. ورسالة إدارة ترامب واضحة وصريحة: إما قبول الشروط، أو أن الهجوم الثاني قادم.
وتواجه إيران في الوقت نفسه ثلاثة ضغوط كبرى: تهديد عسكري واحتمال شنّ مزيد من الهجمات، أزمة اقتصادية عميقة تنهك اقتصادًا مشلولًا بالتحريم والفساد والإفلاس، وضغط اجتماعي في بلد وصل فيه صبر الناس إلى أدنى مستوى منذ عقود.
وأما بالنسبة للمجتمع، فالقضية ليست التخصيب ولا الصواريخ. فما شهده الإيرانيون خلال عشرين عامًا من البرنامج النووي هو أربع نتائج واضحة: العقوبات، الغلاء، الضيق المعيشي، واليأس. وقد دُفعت كلفة هذه السياسات مباشرة من جيوب المواطنين، دون أن يكون لهم أي دور في تحديد مسارها.
واليوم، يظهر التباين بين أولويات الشعب الإيراني وأولويات السلطة بأوضح صورة. فالشعب يريد الأمن، والحياة الطبيعية، ومستقبلًا قابلًا للتوقع، بينما تُربط القرارات الكبرى للدولة بخيارات لم تجلب أي منفعة للمواطنين، بل أثقلت كاهلهم.
وتبدو إيران الآن أمام مفترق حاسم؛ فقبول شروط واشنطن يعني التراجع عن أسس بنى النظام شرعيته وقوته عليها طوال أربعة عقود، وهو تراجع قد يهدد بقاءه. ورفض هذه الشروط يعني إدخال البلاد في دورة جديدة من الضغط الأقصى، وهجمات إضافية، وتفاقم الأزمة الاقتصادية.
وأثبتت تجارب العقود الأربعة الماضية أن القرارات التي تُتخذ دون الشعب تتحول في النهاية إلى قرارات ضد الشعب. لا الاتفاق، ولا الحرب، ولا الضغط الخارجي، ولا التفاوض السري يمكن أن يحقق تحسنًا حقيقيًا قبل إصلاح الهوة العميقة بين السلطة والمجتمع.
ويقف النظام الإيراني، بعد حرب الـ 12 يومًا، في موقع لا يمكنه فيه العودة إلى مساره السابق. إنه مأزق استراتيجي نتاج سنوات من صناعة القرار من دون مشاركة شعبية. التغيير بات حتميًا، لكن إذا كان هذا التغيير سيخفف الأزمة أو يدفع البلاد نحو مزيد من الاضطراب، فإن ذلك يعتمد على قرارات لا تزال تُتخذ خلف أبواب مغلقة وبعيدًا عن عيون المجتمع.
ومصير ملايين الإيرانيين اليوم بيد أشخاص لا يريدون لهم الخير، ولا يعترفون أصلًا بـ "شعب" بل يرونهم "رعية" يعتقدون أنها بلا وعي ولا إدراك لتعرف ما هو الأصلح لها.
وهذه النظرة نفسها هي ما يقرّب خامنئي والنظام الإيراني من نهايتهما.

أصبح نشر جملة قصيرة لآية الله السيستاني، في هذه الأيام، مصدر إزعاج كبيرًا لنظام خامنئي؛ جملة تبدو بسيطة، لكن لها تداعيات قد تكون ثقيلة على البنية الدينية- الأمنية للنظام الإيراني: "أوصي المؤمنين بعدم الصلاة خلف من يتقاضى راتبًا من الدولة".
وجاءت هذه النصيحة الفقهية ردًا على سؤال بسيط: في بعض الدول الإسلامية تدفع الدولة رواتب للأئمة، ما رأيكم في ذلك؟
وتجاوز رد السيستاني كونه مجرد رأي فقهي عادي ليصبح تحديًا مباشرًا لأسس الحكم الديني في إيران. وأوضح أن سبب نصيحته بـ"عدم الصلاة" خلف الإمام الذي يتقاضى راتبًا، هو "الحفاظ على مكانة الإمام من أي تدخل حكومي، في الحاضر والمستقبل".
وهذه الأسطر القليلة تعتبر هجومًا جذريًا على نموذج الحكم الذي تبناه "النظام الإيراني" خلال 47 عامًا: تحويل رجال الدين إلى أداة حكومية وشراء ولاء آلاف الأئمة والمجتمعين على الصلاة بأموال عامة.
لماذا هذا الموضوع مؤلم لنظام خامنئي؟
قبل الدخول في هذا النقاش، يجب ملاحظة أن العديد من الناس اليوم في إيران لا يهتمون بالاختلافات الداخلية للمؤسسة المعروفة برجال الدين؛ لا رؤية السيستاني جذابة لهم، ولا رؤية خامنئي كذلك. بعد تجربة طويلة ومكلفة للحكم الديني، ابتعد الإيرانيون إلى حد كبير عن النقاشات الفقهية، كما أن الخلافات بين أعضاء هذه المؤسسة الدينية لا تهمهم كثيرًا.
والنقطة الأهم هنا هي التداعيات السياسية لفتوى السيستاني، وليس النقاشات الداخلية للحوزات الدينية.
وحتى لدى المتدينين التقليديين، يُعتبر السيستاني مرجعًا أعلى وأقوى من خامنئي. وهو يشير إلى أن "الاعتماد البنيوي لرجال الدين على الدولة" يمثل مشكلة. ويمكن اعتبار ذلك ضربة قوية للشرعية القليلة التي يحافظ عليها نظام خامنئي بين مجموعة محدودة من المؤمنين بالشيعة.
وبعبارة أوضح؛ السيستاني لا يشكك فقط في الإمام الذي يتقاضى راتبًا، بل يتحدى عمليًا كامل نموذج "ولاية الفقيه" الذي يقوم على هؤلاء الأئمة والأئمة المعينين من قِبل النظام.
كيف جعل النظام الإيراني رجال الدين تابعين؟
قوة النظام الإيراني تقوم على "تبعية رجال الدين"؛ نظام يضم حوالي 30 ألف إمام جماعة في المساجد، وعشرات الآلاف من الأئمة في الدوائر الحكومية، و850 إمام جمعة في المدن، و31 ممثلًا لولي الفقيه في المحافظات.
أغلب الأئمة في الدوائر الحكومية وأئمة الجمعة وممثلو ولي الفقيه في أنحاء البلاد يتقاضون رواتب، ويحصلون على وسائل ومكاتب وسائقين ومكانة رسمية من الدولة. ومن خلال هذا الشبكة الكبيرة، يوزع النظام رسائله السياسية في جميع أنحاء البلاد.
الآن يقول السيستاني إنه من الأفضل شرعيًا عدم الصلاة خلف هؤلاء الأفراد.
هذا يعني أن المساجد في الأحياء، التي غالبًا ما تكون قواعد لـ "الباسيج"، وصولًا إلى صلاة الجمعة في عواصم المحافظات، كلها أصبحت محل شك.
فعلى سبيل المثال، يعلم موظفو الدوائر الحكومية ووزارات الدولة أن إمام جماعة الدائرة عادة يأتي قبل صلاة الظهر بقليل، ويصلي نصف ساعة، ويتقاضى راتبًا. في كثير من الدوائر، أصبحت صلاة الجماعة أداة للرقابة ومنح الامتيازات الإدارية. والآن يقول السيستاني إنه لا ينبغي الصلاة خلف هؤلاء الأفراد.
السيستاني في مواجهة نموذج خامنئي
النقطة الأهم هي أن السيستاني، من موقع مستقل وأعلى، استهدف تحديدًا النقطة، التي بذل خامنئي 36 عامًا لتثبيتها: تبعية الحوزات العلمية الكاملة للنظام.
وقام خامنئي بإنشاء المجلس الأعلى للحوزات، ومركز إدارة الحوزات، وتخصيص ميزانيات ضخمة لها، مما قضى على الاستقلال المزعوم لرجال الدين الشيعة. وكانت هذه السياسة صارمة لدرجة أن العديد من رجال الدين التقليديين انتقدوا "تأميم كامل الحوزات".
والآن يقف السيستاني في موقع معاكس تمامًا، ويقول إن رجل الدين إذا أصبح تابعًا للحكومة، فإن مكانته ستنهار، ولا ينبغي للناس الصلاة خلف هؤلاء الأفراد الذين يتقاضون رواتب حكومية.
وهذا القول لا يشوش فقط على تسلسل الأئمة والجماعات، بل يهاجم عمليًا الجذور النظرية لـ "ولاية الفقيه".
الرسالة الكبرى: رفض النموذج الإيراني
نقطة مهمة أخرى هي أن السيستاني بعد سقوط صدام، وعلى الرغم من امتلاكه نفوذًا اجتماعيًا واسعًا، لم يحاول أبدًا إنشاء نسخة من "ولاية الفقيه" في العراق، لأنه اعتبر هذا النموذج خطأً وغير فعال.
واليوم يستخدم المنطق نفسه ليؤكد أن رجل الدين لا ينبغي أن يذوب في بنية الدولة، وهو ما يمثل العمود الفقري لبقاء النظام الإيراني.
تقييم المواطنين للحكم الديني
يجب العودة إلى نقطة أهم: بغض النظر عما يقوله السيستاني أو خامنئي، فإن تقييم المواطنين للحكم الديني في إيران واضح.
بعد أربعة عقود من التجربة المريرة، السوداء، والدموية والفاشلة للنظام الإيراني، لم تتجاوز الغالبية من المجتمع الحكم الديني فحسب، بل يرون أن الدين لا يجب أن يلعب أي دور في الحكم.
ولو كانت هناك انتخابات حرة، لرفض الناس صراحة هذا الهيكل الديني للحكم؛ وهي حقيقة يعرفها جيدًا جميع أطياف النظام الإيراني، من الأصوليين إلى الإصلاحيين. ولهذا السبب، لا يسمح أي منهم بإجراء انتخابات حرة.

في ظل ضغوط غير مسبوقة داخليًا وخارجيًا بعد "حرب الـ 12 يومًا" في يونيو (حزيران) الماضي، يتبنى النظام الإيراني نبرات ورسائل جديدة لتهدئة القاعدة الشعبية.
وأوضح مثال على ذلك يظهر في برنامج حواري سياسي ذي أجواء قاتمة؛ حيث يبدو أن القادة الإيرانيين الذين كانوا يوصفون بالثبات، مجبرون الآن على الجلوس لإجراء مقابلات معمقة بشكل غير معتاد.
ويعدّل أحد الجنرالات خاتمه قبل الإجابة. وآخر يصرّح بشكوى قبل أن يبدأ. جميعهم يواجهون- أو يحاولون مواجهة- أسئلة لا مفر منها يطرحها المضيف جواد موغويي، صانع الأفلام الوثائقية الذي طالما كان مرتبطًا بالنظام الحاكم.
ومنذ الحرب التي استمرت 12 يومًا مع إسرائيل، تغيرت نبرة البرنامج بشكل ملحوظ: قصيرة ومباشرة، ومشحونة بالإحباطات المتداولة داخل النظام.
ليونة مفرطة تجاه الولايات المتحدة
كان أحد الضيوف مؤخرًا محمد رضا نقدي، مستشار القائد العام للحرس الثوري الإيراني.
سأل موغويي عن الضربة الانتقامية لإيران على قاعدة أميركية في العراق بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في يناير (كانون الثاني) 2020.
وقال موغويي في "الضوء الخافت": "يعتقد كثيرون أن جذور الحرب الأخيرة تعود إلى تلك اللحظة. وأن ردنا كان ليّنًا جدًا". ثم قال بصوت منخفض: "هل تقبل أننا لم نصب الأميركيين بالشكل الكافي؟".
ابتسم نقدي، لكن دون ارتياح. وتم تأكيد استبداله بهدوء بعد أيام قليلة.
لم يُقتل أي أميركي في تلك الضربة، وذلك لأن طهران كانت قد أخطرت واشنطن بنيّاتها مسبقًا وبمهلة كافية.
وفي حلقة أخرى، سأل موغويي قائد الدفاع الجوي، غلام رضا جلالي، عن مكانه عندما ضربت إسرائيل طهران وقتلت العديد من كبار قادة إيران.
أجاب جلالي: "كنت في المنزل". توقف موغويي قليلًا، ثم قال: "ألا كان ينبغي على القوات المسلحة أن تكون مستعدة؟" فرد جلالي: "لم نتوقع أن يستهدفوا منازل القادة".
كما ظهر كبار المسؤولين الآخرين تحت نفس دائرة الضوء الضيقة: وزير الخارجية، عباس عراقجي، ورئيس البرلمان، محمد باقر قاليباف، ومستشار القائد الأعلى للحرس الثوري، أحمد وحيدي، وغيرهم.
وتم سؤال كل منهم عن الإشارات المفقودة وساعات بدء الحرب، وهي أسئلة لا يمكن طرحها إلا بموافقة السلطات العليا.
وقال المحلل السياسي، جابر رجبي، لـ "إيران إنترناشيونال" إن "الصراحة تعكس القلق داخل النظام الإيراني".
وأضاف: "الأسئلة التي يطرحها المضيف هي نفسها التي تُطرح داخل الحرس الثوري وبين مؤيدي النظام. إذا لم يحصلوا على إجابات مقنعة، فقد يؤدي ذلك إلى انشقاقات داخل هذه الصفوف".
التحول الوطني
هذا القلق ينعكس أيضًا في الرسائل الثقافية لطهران. ففي الأسابيع الأخيرة، كشفت العاصمة الإيرانية عن تمثال ضخم في ميدان انقلاب يصوّر الإمبراطور الروماني فاليريان راكعًا أمام شابور الأول، في تكرار لنقش صخري ساساني.
ويرسّخ المشروع حملة بعنوان "ستركعون أمام إيران مجددًا"، أُطلقت قرب ذكرى الاستيلاء على السفارة الأميركية عام 1979.
وتحت التمثال، توجد اثنتا عشرة لوحة تسرد لحظات "المقاومة" من الأساطير الفارسية إلى القتال ضد "داعش" والحرب الأخيرة التي استمرت 12 يومًا.
وشهد الكشف عن التمثال شاحنات بشاحنات متنقلة وعروض أوركسترالية، لكن المسؤولين أصرّوا على أنه ليس حدثًا ترويجيًا.
وقال رئيس منظمة تجميل طهران: "هذا استمرار لحقيقة تاريخية: كل غازٍ قد ركع أمام إرادة الشعب الإيراني".
النبرة لا تعني النية
لاحظت التقارير الأجنبية نفس التحول. فقد سلطت صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية الضوء هذا الأسبوع على مسؤولين يجادلون بأن إيران "يجب أن تقرر ما إذا كانت تريد أن تكون قوة تتحدى الأمن الإقليمي أم تدعمه".
وردت مجلة "الإيكونوميست"، عند سؤالها عما إذا كان النظام الإيراني يمكن أن يصمد خمس سنوات أخرى، بأنه من المرجح أن يصمد، رغم أن "السؤال الكبير" هو ما إذا كان تغيير المرشد سيعني تغيير النظام.
وأضاف مراسل "الشرق الأوسط"، نيكولاس بيلهام، أن إيران تبدو كأنها "تحاول إعادة ابتكار نفسها"، مشيرًا إلى صعود الرموز الوطنية الصريحة.
وتشير كل هذه العناصر إلى مراجعة تكتيكية أكثر منها تحولاً: دولة مضطربة بما يكفي لتبرير قرارات كانت تعتبرها بديهية سابقًا، ومصممة على تغليف هذا القلق في سردية أكبر عن الحتمية التاريخية.
إنه تغيير في الأسلوب أكثر منه في الهيكل.. فنبرة إيران تغيّرت قليلاً مقارنة ببنيتها الأساسية.

على الرغم من الأزمات السياسية والاقتصادية المتصاعدة، التي يواجهها النظام الإيراني، فإنه يواصل تشديد قبضته على الإعلام، لكن بأساليب أكثر هدوءًا ونعومة من ذي قبل، عبر حظرٍ وتقييدات تطال كل من يتجاوز الحدود المسموح بها.
ولم تعد الإجراءات مقتصرة على الرقابة أو الملاحقات القضائية، بل باتت تمتد إلى قطع مصادر الدخل، وتقييد المسار المهني، وتقليص النفوذ العام. وقد تُعطّل حسابات التواصل الاجتماعي، أو يُمنع نشر الأعمال الفنية والإعلامية.
وأحدث الأمثلة هو المقدم التلفزيوني المعروف ومقدّم البرامج الحوارية السابق، رضا رشید بور، الذي تم إيقاف برامجه دون أي توضيح، وسط مزاعم بأن السبب يعود إلى دعمه حملة الرئيس الأسبق، حسن روحاني، في انتخابات عام 2017.
وفي منشور على منصة "إكس" موجّه إلى الرئيس الحالي مسعود بزشكيان، قال رشید بور إنه بات ممنوعًا من استخدام أي منصة لنشر أعماله.
وكتب: "قالوا لي إنني ممنوع من أي نشاط فني. مضت خمس سنوات.. وتمضي البقية كذلك. سأجلس في ركنٍ من منزلي، في وطني، وأراقب".
ورغم أن رشید بور ليس شخصًا هامشيًا، فإن الحصول على برنامج كبير في هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية يستلزم تدقيقًا أمنيًا واسعًا، واختبارات ولاء، والالتزام بالخطوط الحمراء. ومع ذلك، فإن السقوط من دائرة الرضا الرسمي قد يحدث بسرعة مماثلة للصعود.
سياسة فاشلة
قليلون فقط يدافعون عن شخصيات مثله، أو غيره من الأفراد الذين كانوا من داخل المنظومة لكنهم أصبحوا لاحقًا غير مرغوب فيهم. فغالبًا ما ينظر إليهم الجمهور كأشخاص استفادوا من النظام، إلى أن قرر النظام الاستغناء عنهم.
وينطبق هذا النمط منذ سنوات على فنانين ورياضيين وحتى سياسيين. ويعد الرئيس الإيراني الأسبق، محمد خاتمي، مثالاً بارزًا على ذلك، بما تعرض له من تهميش وحظر ظهور إعلامي طويل الأمد.
وتساءل مقال في موقع "رويداد 24" هذا الأسبوع: "لماذا تستمر سياسة أثبتت فشلها لعقود في مجالات الثقافة والإعلام والسياسة، وتُستخدم مرارًا كأداة للسيطرة؟".
وأضاف المقال: "قليل من الأفعال يلفت الأنظار إلى صوت معيّن بقدر محاولة إسكاته".
وغالبًا ما تكون هذه القيود غير رسمية، لكنها فعالة للغاية. فعدد كبير من الفنانين والرياضيين، الذين دعموا الاحتجاجات أو انتقدوا الدولة، واجهوا قيودًا مشابهة خلال السنوات الماضية.
ممثل.. وموسيقي.. ولاعب كرة قدم
مُنعت الممثلة الشهيرة فاطمة معتمد- آريا من العمل في السينما بعد انتقادها سياسات النظام، وظهورها دون حجاب في مهرجان كان عام 2010، ما أدى إلى حظر عرض أفلام كانت قد انتهت من تمثيلها.
كما تم تهميش الموسيقار الكبير، محمد رضا شجريان، بعد تضامنه مع المتظاهرين عام 2009 وإطلاقه أغنية "أيها الجندي، اخفض سلاحك"، التي اعتُبرت رسالة مباشرة لقوات الأمن.
أما أسطورة كرة القدم الإيرانية، علي دائي، فقد تعرض لقيود بعد دعمه احتجاجات 2022، إذ صادرت السلطات جوازات سفره وجوازات أفراد عائلته، وأغلقت متجر المجوهرات والمطعم اللذين يملكهما في طهران.
وهذه القيود قد تستمر أسابيع أو سنوات، وغالبًا ما يتم رفعها بالقدر نفسه من الغموض، الذي فُرضت به، دون اتهام رسمي أو تفسير.
حملات قمع صامتة
شهدت الأشهر الأخيرة قطع الخدمة عن أرقام هاتفية خاصة بأفراد معينين، مع الضغط عليهم لإغلاق حساباتهم واسعة المتابعة على شبكات التواصل الاجتماعي.
وفي أغسطس (آب) الماضي، أفادت تقارير بأن السلطات الإيرانية حجبت شريحة الهاتف الخاصة بالصحافية سعیدة شفیعی، وأجبرتها على إغلاق حساباتها وتوقيع تعهّد بنشر محتوى مؤيد للنظام مقابل إعادة الخدمة.
وإزاء الضغوط، التي فرضتها "حرب الـ 12 يومًا"، في يونيو (حزيران) الماضي، والأزمات الاقتصادية والبيئية المتفاقمة، يبدو أن طهران بدأت تتراجع عن أساليبها الأكثر صدامًا.. لكنها تستبدلها الآن بطرق أكثر هدوءًا وتسللًا، وأشد تأثيرًا.

بعد حرب الـ 12 يومًا، أصبح النظام السياسي في إيران أكثر انغماسًا من أيّ وقت مضى في صراع بين قوى متعددة ومتعارضة.
وهذه القوى يسعى كلٌّ منها إلى الحفاظ على موقعه في ساحة النفوذ أو إعادة تعريفه، غير أنّ مركز هذه الساحة لا يزال بيد النظام الإيراني؛ بنية فقدت قابلية التطوير والإصلاح، ولا تستطيع اليوم سوى الاستمرار بالاعتماد على السيطرة الأمنية، وتنظيم الوصول إلى الموارد وإعادة توزيعها، للحفاظ على الحدّ الأدنى من إدارة الدولة.
وأمام النظام الإيراني تصطفّ ثلاثة قوى رئيسة: مجتمع مُجزّأ إلى جزر، غارق في عشرات الجبهات المعيشية والمهنية والمحلية، ويفتقر إلى شبكات منظمة؛ ومعارضة في الخارج قادرة على إنتاج السرديات والرموز وتسليط الضوء على الأزمات، لكنها عاجزة عن خلق اتصال ميداني وعن ترجمة التجربة المعيشة داخل البلاد، ولاعبون خارجيون يبدو أنهم لا يمتلكون لا خطّة لتغيير النظام ولا إرادة لتغيير قواعد اللعبة، بل يسعون أساسًا إلى الحدّ من قدرات النظام الإيراني.
وتجعل تفاعلات هذه القوى الثلاث مع البنية الأمنية للسلطة المستقبل غير متجه لا نحو إصلاحات مستدامة ولا نحو انفجار فوري؛ بل إن وجودها يضع استمرار النظام الإيراني في مسار "الاستمرار المصحوب بالتآكل".
نظام واحد وأصوات عديدة
على الرغم من أنّ النظام الإيراني يتمحور حول شخصية المرشد، التي تقول الكلمة الأخيرة، فإنّ هذا المركز أنتج بنية معقدة من المؤسسات والجماعات التي يستند تماسكها إلى مزيج معقد من المؤسسات الموازية، والمجالس الأمنية، وحلقات الولاء، ومراتب متعدّدة.
وتعالج المؤسسات ملفات مختلفة، ويتوزع صنع القرار على طبقات متعددة، غير أنّ القرارات الكبرى تصل في النهاية إلى نقطة يحدّد المرشد فيها الوزن النهائي. ويمكن القول إن بنية النظام الاستبدادي في إيران تجعل من موقع القيادة السقف المسموح به للمطالب.
ويكشف التصريح الأخير للرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، في البرلمان بشأن القلق من "مقتل المرشد واندلاع اقتتال داخلي"، خلال الحرب الأخيرة، أنّ المشكلة الأساسية لصنّاع القرار ليست تنفيذ استراتيجية وطنية، بل الحفاظ على التوافق بين شبكات السلطة؛ شبكات لديها قابلية للتباعد والانقسام من دون محور القيادة.
ويظهر الأمر نفسه في تصريحات رئيس مجلس الإعلام الحكومي إلياس حضرتي، والناشط السياسي الأصولي، ناصر إيماني، اللذين أشارا إلى "الخلل في نقاط صناعة القرار" أو "إضعاف سلطة الحكومة". هؤلاء الثلاثة يصفون بنية يُوزّع فيها صنع القرار عبر قنوات متعددة، بينما يبقى اتخاذ القرار النهائي عبر قناة واحدة.
وفي هذه الهندسة السياسية، لا يُعدّ الجهاز الحكومي سوى جزء من العملية، لا مركزها. فالأجهزة الأمنية والاقتصادية والموازية تدفع كلٌّ منها سياساتها الخاصة، ويقوم المرشد بصفته المنسّق الأخير بفضّ المنازعات بين هذه الشبكات أكثر مما يقوم بإدارة جهاز موحّد.
مع ذلك، وضعت "حرب الـ 12 يومًا" هذه البنية المتعددة الطبقات أمام تحديات جديدة؛ فقد أدّى إقصاء بعض الشخصيات البارزة في الحرس الثوري، التي كانت ذات نفوذ في مجالات متعددة، إلى عجز المجموعات داخل النظام عن استعادة توازنها السابق، وارتفعت الحساسية تجاه الخلافات الداخلية.
غير أنّ هذه الخلافات لا تسير باتجاه تمثيل مطالب المجتمع، بل نحو ضمان المصالح الفئوية، ويمكن رؤية هذا الوضع في النزاع حول بابك زنجاني (المتهم بأكبر قضية فساد في تاريخ قطاع النفط الإيراني)؛ حيث يقف الجهاز القضائي للدفاع عنه في مواجهة البنك المركزي، بينما يقول رئيس شرطة الأمن الاقتصادي، حسين رحيمي، إنه "يتكلم أكثر مما يجب". هذا المثال مجرد تجلٍّ للآلية ذاتها: تنافس داخلي بين الشبكات على حماية مصالحها، في ظل غياب توازن مستقر بعد الحرب.
استياء واسع وتنظيم محدود
بعد الحرب، ازداد العبء المالي على الحكومة، ونُقلت نسبة كبيرة من هذا الضغط إلى المجتمع، عبر السياسات التضخمية، فظهر ذلك في ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة المعيشية، مما جعل الاستياء عامًا.
وأصبح المجتمع الإيراني اليوم في وضع يمكن وصفه بـ "النشط وغير المنظم": فمن الممكن رؤية أفعال احتجاجية متناثرة في المدن والقطاعات المهنية، غير أنها تتوقف عند حدودها المحلية بسبب غياب الآليات الوسيطة.
وكانت احتجاجات ممرّضي مشهد، وما حملته من شعارات تستهدف الفساد البنيوي وعدم المساواة في توزيع الموارد، مثالاً بارزًا على هذا الوضع.
ورغم أن الفساد أصبح محورًا مركزيًا في العديد من الاحتجاجات، فإن غياب شبكات التواصل والمؤسسات الداعمة يمنع هذه الأصوات من التحوّل إلى فعل سياسي مشترك. فالطاقة الاحتجاجية موجودة، لكن "الحامل التنظيمي" غائب.
وفي المدن الكبرى، يظهر الضغط الاقتصادي وتآكل بنية العمل في دفع ملايين الناس إلى وظائف غير مستقرة قائمة على المنصّات.
إن رقم ثمانية ملايين سائق في "اسنب" و"تبسي" (تطبيقات إيرانية لخدمات النقل عبر الهاتف المحمول) ليس بحدّ ذاته مؤشرًا على انهيار سوق العمل، لكنه يكشف عن حجم الأزمة المعيشية: فشريحة واسعة من المجتمع تدور في حلقة وظائف بلا ضمانات ولا دخل ثابت.
وهذا الوضع، رغم أنه يُولّد استياءً عميقًا، فإنه يستنزف الطاقة النفسية والأفق التنظيمي للأفراد. لقد تحوّلت الأغلبية إلى حياة طارئة دائمة تجعل همّ المعيشة اليومية يُلغي إمكانية أي دور تنظيمي.
وعلى خلاف المراكز الإقليمية، حيث تكون الاحتجاجات ذات طابع مهني ومعيشي، فإن المناطق الطرفية أو الهامشية غالبًا ما تختبر علاقتها بالدولة في إطار "مواجهة أمنية".
ويُعدّ هدم منازل مواطنين في "بلوشستان إيران" مثالًا على هذا النمط المتكرر في الأعوام الأخيرة. هذه السياسات تُنتج مقاومات محلية، لكنها، بسبب طابعها الدفاعي وغياب شبكات وسيطة تربطها بمطالب المركز، نادرًا ما تتحول إلى قوة أوسع. هكذا تُدفن بعض الاحتجاجات تحت ظلّ فجوة المركز- الهامش، فجوة ذات طابع بنيوي وأمني في آنٍ واحد، وتمنع عمليًا أي إمكانية للتكامل.
يمكن القول إن القوى المعارضة في الداخل تعيش وضعًا مفككًا؛ وفي الخارج، رغم نشاط المعارضة إعلاميًا وقدرتها على إنتاج سرديات ورموز، فإن ذلك لا يُترجم إلى تمثيل دقيق لأزمات الحياة اليومية أو إلى بناء لغة سياسية مشتركة.
ويوجد إنتاج إعلامي، لكن قدرة تحويله إلى مطلب جمعي وعمل تنظيمي شبه معدومة. وقد أدّى هذا العجز في عكس المطالب بدقة إلى تراجع الثقة العامة بالمعارضة، وتقليص تأثيرها داخل البلاد.
وجعلت الفجوة بين خطاب الخارج والواقع المعيشي في الداخل، المعارضة مجرد "مُضخّم لصوت ما" لا "مُخلّ بالتوازن". فالمجتمع في الداخل بلا شبكة، والمعارضة في الخارج لا تبني شبكة، وغياب الاتصال هذا يعيد إنتاج الفجوة بين "الصوت" و"الحياة".
الاستمرار على حافة الهاوية
مع كل ذلك، يقف النظام الإيراني اليوم في وضع يمكن وصفه بـ "الاستمرار المصحوب بالتآكل".
فالبنية السياسية لا تزال اللاعب المهيمن في الميدان، لكن هذا التفوّق لم يعد نتيجة قدرة مؤسسية أو ابتكار سياسي؛ بل ثمرة نظام أمني وغياب قوة قادرة على قلب المعادلة.
فالمنظومة تستمر، لا بوصفها دولة فعّالة، بل كآلية تنقل الأزمات من يوم إلى آخر. أصبحت الأدوات الأمنية بديلاً للسياسة، فيما ترتفع كلفة بقاء النظام يومًا بعد آخر. وهذا المسار يتيح استمرارًا مؤقتًا، لكنه يستنزف جودة الحُكم.
وفي الساحة الخارجية، لا يُفتح طريق الانتقال السياسي من الخارج. فقرار "الترويكا" الأوروبية بشأن التعليق الكامل للتخصيب والتهديدات المرحلية من أميركا وإسرائيل تدل على أنّ هدف اللاعبين اليوم هو احتواء القدرات النووية والإقليمية لإيران، لا هندسة تغيير داخلي.
وقد تُسرّع الضغوط الخارجية من وتيرة التآكل الاقتصادي والبنيوي، لكنها لا تشغّل محرّك التغيير السياسي، لأنّ ملف إيران بالنسبة للغرب هو ملف أمني بالدرجة الأولى، لا مشروع سياسي.
وفي هذا الوضع، لا يولد الانتقال السياسي من شرارة خارجية ولا من فعل واحد. وسيستمر النظام الإيراني ما لم يصل تآكله الداخلي إلى حد الاختلال، وما لم تتشكل قوة منظمة ومرتبطة بالمجتمع قادرة على مواجهته.
ويبدأ التغيير عندما يتحرك مساران معًا: أولاً يصل التآكل الداخلي إلى مستوى يفقد فيه محور القيادة وآليات إعادة التوزيع والشبكة البيروقراطية القدرة على حفظ التماسك، وثانيًا: تتمكن القوى المعارضة في الداخل والخارج من بناء حد أدنى من التنظيم واستعادة الثقة الاجتماعية.
قد يسرّع اللاعبون الخارجيون هذا المسار أو يضاعفون حدّته، لكن الشرط الضروري للانتقال هو تلاقي القوى الداخلية والخارجية على لغة وهدف مشتركين، لا الاتكاء الكامل على الإرادة الخارجية.
وإلى أن يتحقق هذا التقاطع، سيبقى النظام الإيراني في حالة "استمرار مصحوب بالتآكل": بنية لا تزال القوة القاهرة للوضع القائم، لكنها تتراجع يوميًا عن القدرة على إنتاج الاستقرار أو الخدمات أو الشرعية.