النظام الإيراني.. استمرار مصحوب بالتآكل

بعد حرب الـ 12 يومًا، أصبح النظام السياسي في إيران أكثر انغماسًا من أيّ وقت مضى في صراع بين قوى متعددة ومتعارضة.

بعد حرب الـ 12 يومًا، أصبح النظام السياسي في إيران أكثر انغماسًا من أيّ وقت مضى في صراع بين قوى متعددة ومتعارضة.
وهذه القوى يسعى كلٌّ منها إلى الحفاظ على موقعه في ساحة النفوذ أو إعادة تعريفه، غير أنّ مركز هذه الساحة لا يزال بيد النظام الإيراني؛ بنية فقدت قابلية التطوير والإصلاح، ولا تستطيع اليوم سوى الاستمرار بالاعتماد على السيطرة الأمنية، وتنظيم الوصول إلى الموارد وإعادة توزيعها، للحفاظ على الحدّ الأدنى من إدارة الدولة.
وأمام النظام الإيراني تصطفّ ثلاثة قوى رئيسة: مجتمع مُجزّأ إلى جزر، غارق في عشرات الجبهات المعيشية والمهنية والمحلية، ويفتقر إلى شبكات منظمة؛ ومعارضة في الخارج قادرة على إنتاج السرديات والرموز وتسليط الضوء على الأزمات، لكنها عاجزة عن خلق اتصال ميداني وعن ترجمة التجربة المعيشة داخل البلاد، ولاعبون خارجيون يبدو أنهم لا يمتلكون لا خطّة لتغيير النظام ولا إرادة لتغيير قواعد اللعبة، بل يسعون أساسًا إلى الحدّ من قدرات النظام الإيراني.
وتجعل تفاعلات هذه القوى الثلاث مع البنية الأمنية للسلطة المستقبل غير متجه لا نحو إصلاحات مستدامة ولا نحو انفجار فوري؛ بل إن وجودها يضع استمرار النظام الإيراني في مسار "الاستمرار المصحوب بالتآكل".
نظام واحد وأصوات عديدة
على الرغم من أنّ النظام الإيراني يتمحور حول شخصية المرشد، التي تقول الكلمة الأخيرة، فإنّ هذا المركز أنتج بنية معقدة من المؤسسات والجماعات التي يستند تماسكها إلى مزيج معقد من المؤسسات الموازية، والمجالس الأمنية، وحلقات الولاء، ومراتب متعدّدة.
وتعالج المؤسسات ملفات مختلفة، ويتوزع صنع القرار على طبقات متعددة، غير أنّ القرارات الكبرى تصل في النهاية إلى نقطة يحدّد المرشد فيها الوزن النهائي. ويمكن القول إن بنية النظام الاستبدادي في إيران تجعل من موقع القيادة السقف المسموح به للمطالب.
ويكشف التصريح الأخير للرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، في البرلمان بشأن القلق من "مقتل المرشد واندلاع اقتتال داخلي"، خلال الحرب الأخيرة، أنّ المشكلة الأساسية لصنّاع القرار ليست تنفيذ استراتيجية وطنية، بل الحفاظ على التوافق بين شبكات السلطة؛ شبكات لديها قابلية للتباعد والانقسام من دون محور القيادة.
ويظهر الأمر نفسه في تصريحات رئيس مجلس الإعلام الحكومي إلياس حضرتي، والناشط السياسي الأصولي، ناصر إيماني، اللذين أشارا إلى "الخلل في نقاط صناعة القرار" أو "إضعاف سلطة الحكومة". هؤلاء الثلاثة يصفون بنية يُوزّع فيها صنع القرار عبر قنوات متعددة، بينما يبقى اتخاذ القرار النهائي عبر قناة واحدة.
وفي هذه الهندسة السياسية، لا يُعدّ الجهاز الحكومي سوى جزء من العملية، لا مركزها. فالأجهزة الأمنية والاقتصادية والموازية تدفع كلٌّ منها سياساتها الخاصة، ويقوم المرشد بصفته المنسّق الأخير بفضّ المنازعات بين هذه الشبكات أكثر مما يقوم بإدارة جهاز موحّد.
مع ذلك، وضعت "حرب الـ 12 يومًا" هذه البنية المتعددة الطبقات أمام تحديات جديدة؛ فقد أدّى إقصاء بعض الشخصيات البارزة في الحرس الثوري، التي كانت ذات نفوذ في مجالات متعددة، إلى عجز المجموعات داخل النظام عن استعادة توازنها السابق، وارتفعت الحساسية تجاه الخلافات الداخلية.
غير أنّ هذه الخلافات لا تسير باتجاه تمثيل مطالب المجتمع، بل نحو ضمان المصالح الفئوية، ويمكن رؤية هذا الوضع في النزاع حول بابك زنجاني (المتهم بأكبر قضية فساد في تاريخ قطاع النفط الإيراني)؛ حيث يقف الجهاز القضائي للدفاع عنه في مواجهة البنك المركزي، بينما يقول رئيس شرطة الأمن الاقتصادي، حسين رحيمي، إنه "يتكلم أكثر مما يجب". هذا المثال مجرد تجلٍّ للآلية ذاتها: تنافس داخلي بين الشبكات على حماية مصالحها، في ظل غياب توازن مستقر بعد الحرب.
استياء واسع وتنظيم محدود
بعد الحرب، ازداد العبء المالي على الحكومة، ونُقلت نسبة كبيرة من هذا الضغط إلى المجتمع، عبر السياسات التضخمية، فظهر ذلك في ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة المعيشية، مما جعل الاستياء عامًا.
وأصبح المجتمع الإيراني اليوم في وضع يمكن وصفه بـ "النشط وغير المنظم": فمن الممكن رؤية أفعال احتجاجية متناثرة في المدن والقطاعات المهنية، غير أنها تتوقف عند حدودها المحلية بسبب غياب الآليات الوسيطة.
وكانت احتجاجات ممرّضي مشهد، وما حملته من شعارات تستهدف الفساد البنيوي وعدم المساواة في توزيع الموارد، مثالاً بارزًا على هذا الوضع.
ورغم أن الفساد أصبح محورًا مركزيًا في العديد من الاحتجاجات، فإن غياب شبكات التواصل والمؤسسات الداعمة يمنع هذه الأصوات من التحوّل إلى فعل سياسي مشترك. فالطاقة الاحتجاجية موجودة، لكن "الحامل التنظيمي" غائب.
وفي المدن الكبرى، يظهر الضغط الاقتصادي وتآكل بنية العمل في دفع ملايين الناس إلى وظائف غير مستقرة قائمة على المنصّات.
إن رقم ثمانية ملايين سائق في "اسنب" و"تبسي" (تطبيقات إيرانية لخدمات النقل عبر الهاتف المحمول) ليس بحدّ ذاته مؤشرًا على انهيار سوق العمل، لكنه يكشف عن حجم الأزمة المعيشية: فشريحة واسعة من المجتمع تدور في حلقة وظائف بلا ضمانات ولا دخل ثابت.
وهذا الوضع، رغم أنه يُولّد استياءً عميقًا، فإنه يستنزف الطاقة النفسية والأفق التنظيمي للأفراد. لقد تحوّلت الأغلبية إلى حياة طارئة دائمة تجعل همّ المعيشة اليومية يُلغي إمكانية أي دور تنظيمي.
وعلى خلاف المراكز الإقليمية، حيث تكون الاحتجاجات ذات طابع مهني ومعيشي، فإن المناطق الطرفية أو الهامشية غالبًا ما تختبر علاقتها بالدولة في إطار "مواجهة أمنية".
ويُعدّ هدم منازل مواطنين في "بلوشستان إيران" مثالًا على هذا النمط المتكرر في الأعوام الأخيرة. هذه السياسات تُنتج مقاومات محلية، لكنها، بسبب طابعها الدفاعي وغياب شبكات وسيطة تربطها بمطالب المركز، نادرًا ما تتحول إلى قوة أوسع. هكذا تُدفن بعض الاحتجاجات تحت ظلّ فجوة المركز- الهامش، فجوة ذات طابع بنيوي وأمني في آنٍ واحد، وتمنع عمليًا أي إمكانية للتكامل.
يمكن القول إن القوى المعارضة في الداخل تعيش وضعًا مفككًا؛ وفي الخارج، رغم نشاط المعارضة إعلاميًا وقدرتها على إنتاج سرديات ورموز، فإن ذلك لا يُترجم إلى تمثيل دقيق لأزمات الحياة اليومية أو إلى بناء لغة سياسية مشتركة.
ويوجد إنتاج إعلامي، لكن قدرة تحويله إلى مطلب جمعي وعمل تنظيمي شبه معدومة. وقد أدّى هذا العجز في عكس المطالب بدقة إلى تراجع الثقة العامة بالمعارضة، وتقليص تأثيرها داخل البلاد.
وجعلت الفجوة بين خطاب الخارج والواقع المعيشي في الداخل، المعارضة مجرد "مُضخّم لصوت ما" لا "مُخلّ بالتوازن". فالمجتمع في الداخل بلا شبكة، والمعارضة في الخارج لا تبني شبكة، وغياب الاتصال هذا يعيد إنتاج الفجوة بين "الصوت" و"الحياة".
الاستمرار على حافة الهاوية
مع كل ذلك، يقف النظام الإيراني اليوم في وضع يمكن وصفه بـ "الاستمرار المصحوب بالتآكل".
فالبنية السياسية لا تزال اللاعب المهيمن في الميدان، لكن هذا التفوّق لم يعد نتيجة قدرة مؤسسية أو ابتكار سياسي؛ بل ثمرة نظام أمني وغياب قوة قادرة على قلب المعادلة.
فالمنظومة تستمر، لا بوصفها دولة فعّالة، بل كآلية تنقل الأزمات من يوم إلى آخر. أصبحت الأدوات الأمنية بديلاً للسياسة، فيما ترتفع كلفة بقاء النظام يومًا بعد آخر. وهذا المسار يتيح استمرارًا مؤقتًا، لكنه يستنزف جودة الحُكم.
وفي الساحة الخارجية، لا يُفتح طريق الانتقال السياسي من الخارج. فقرار "الترويكا" الأوروبية بشأن التعليق الكامل للتخصيب والتهديدات المرحلية من أميركا وإسرائيل تدل على أنّ هدف اللاعبين اليوم هو احتواء القدرات النووية والإقليمية لإيران، لا هندسة تغيير داخلي.
وقد تُسرّع الضغوط الخارجية من وتيرة التآكل الاقتصادي والبنيوي، لكنها لا تشغّل محرّك التغيير السياسي، لأنّ ملف إيران بالنسبة للغرب هو ملف أمني بالدرجة الأولى، لا مشروع سياسي.
وفي هذا الوضع، لا يولد الانتقال السياسي من شرارة خارجية ولا من فعل واحد. وسيستمر النظام الإيراني ما لم يصل تآكله الداخلي إلى حد الاختلال، وما لم تتشكل قوة منظمة ومرتبطة بالمجتمع قادرة على مواجهته.
ويبدأ التغيير عندما يتحرك مساران معًا: أولاً يصل التآكل الداخلي إلى مستوى يفقد فيه محور القيادة وآليات إعادة التوزيع والشبكة البيروقراطية القدرة على حفظ التماسك، وثانيًا: تتمكن القوى المعارضة في الداخل والخارج من بناء حد أدنى من التنظيم واستعادة الثقة الاجتماعية.
قد يسرّع اللاعبون الخارجيون هذا المسار أو يضاعفون حدّته، لكن الشرط الضروري للانتقال هو تلاقي القوى الداخلية والخارجية على لغة وهدف مشتركين، لا الاتكاء الكامل على الإرادة الخارجية.
وإلى أن يتحقق هذا التقاطع، سيبقى النظام الإيراني في حالة "استمرار مصحوب بالتآكل": بنية لا تزال القوة القاهرة للوضع القائم، لكنها تتراجع يوميًا عن القدرة على إنتاج الاستقرار أو الخدمات أو الشرعية.