انتخابات العراق 2025: تشكيك شعبي واسع.. وتنافس إيراني–أميركي محتدم

تُجرى الانتخابات في العراق وسط أجواء يخيّم عليها انعدام الثقة العامة، ومقاطعة التيار الصدري، والمنافسة الحادة بين إيران وأميركا.

تُجرى الانتخابات في العراق وسط أجواء يخيّم عليها انعدام الثقة العامة، ومقاطعة التيار الصدري، والمنافسة الحادة بين إيران وأميركا.
وهو اقتراع يتجاوز مسألة تحديد تركيبة البرلمان ليكون اختباراً لشرعية النظام السياسي وقدرة بغداد على تجاوز أزماتها المتراكمة.
الانتخابات البرلمانية التي تُنظم لاختيار 329 برلمانيا في مجلس النواب تبدو ظاهرياً عملية ديمقراطية اعتيادية، لكنها في الواقع تجري وسط انقسامات بنيوية عميقة. وهذه سادس انتخابات عامة تُجرى في العراق منذ عام 2003، لكن بخلاف الدورات السابقة، تبدو مؤشرات الأمل في إصلاحات حقيقية أقل من أي وقت مضى.
وقد أُجري التصويت الخاص بقوات الأمن والنازحين قبل أيام. وبحسب المسؤولين، تسلّم أكثر من 21 مليون شخص بطاقات الاقتراع، إلا أن التوقعات تشير إلى انخفاض نسبة المشاركة. ففي العديد من المدن، لا يرى الرأي العام في الانتخابات فرصة للتغيير، بل تكراراً للنظام السياسي القديم نفسه.
ومن أحد أبرز العوامل المؤثرة في انتخابات هذا العام الغياب اللافت للتيار الصدري. فمقتدى الصدر، الذي غيّر مراراً خلال العقد الماضي مسار تشكيل الحكومات في العراق، قرر هذه المرة مقاطعة الانتخابات بالكامل.
هذه المقاطعة لم تكن مجرّد موقف سياسي رمزي، إذ إن الثقل الاجتماعي والانتخابي للصدر كبير لدرجة أن غيابه قد يبدّل خريطة البرلمان بأكملها ويضع شرعية النظام السياسي موضع تساؤل.
ويرى كثير من المراقبين أن نسبة واسعة من الناخبين التقليديين للصدر لم يتوجهوا إلى صناديق الاقتراع، وهو ما قد يصبّ في مصلحة القوى التي تمتلك شبكات تنظيمية أقوى ونفوذاً أوسع داخل أجهزة الدولة. كما أن غياب التيار الصدري يزيد احتمالات اندلاع احتجاجات بعد الانتخابات، إذ قد يرى جزء من المجتمع أن الحكومة الجديدة لا تعكس إرادة الشعب.
تجدر الإشارة إلى أن السياق الاجتماعي لانتخابات 11 نوفمبر (تشرين الثاني) يتشكّل على خلفية استياء شعبي عميق ومتراكم. فالفساد المستشري في أجهزة الدولة، والانقطاعات المستمرة للكهرباء، وأزمة المياه، وبطالة الشباب، وعجز الحكومات المتعاقبة عن تحسين الخدمات العامة، كلّها جعلت العراقيين يفقدون الثقة في صناديق الاقتراع كوسيلة لحل مشكلاتهم.
وشكّلت حركة احتجاج "تشرين" في عامي 2019 و2020 نقطة تحوّل في هذا الانعدام للثقة. فالشباب الذين خرجوا حينها للمطالبة بالإصلاح أصبحوا اليوم جزءاً كبيراً من القاعدة الانتخابية المحتملة، لكن تجربة السنوات الماضية أثبتت أن تلك الاحتجاجات لم تُحدث تغييراً ملموساً في بنية السلطة. ومن وجهة نظر كثير من المواطنين، لم تعد الانتخابات سوى تبادل شكلي للمناصب بين الأحزاب الراسخة، وليست فرصة لظهور سياسيين جدد أو لإحداث تغيير حقيقي.
ولفهم سبب تشكيك العراقيين في الانتخابات، يجب النظر إلى الإطار السياسي الذي يحكم البلاد. فمنذ عام 2003، بُنيت السلطة على أساس المحاصصة العرقية والطائفية؛ إذ يملك الشيعة والسنة والأكراد حصصاً محددة من السلطة، ولا يمكن لأي حكومة أن تتشكل من دون ائتلاف معقد بين هذه الأقطاب الثلاثة. ونتيجة هذا النموذج تأتي حكومات هشة وائتلافات قصيرة العمر منشغلة بالحفاظ على توازناتها الداخلية أكثر من اهتمامها بحل مشكلات الناس.
وفي هذا السياق، فشلت البرلمانات المتعاقبة في تحقيق إصلاحات بنيوية، وغالباً ما انتهى بها الأمر إلى تكرار سياسات الحكومات السابقة. ولا تبدو انتخابات هذا العام استثناءً، إذ من غير المرجح أن تغيّر نتائجها هذا النمط المتجذر.
التأثير الإقليمي: دور إيران وأميركا وتوترات الشرق الأوسط
يشار إلى أن انتخابات الثلاثاء ليست حدثاً داخلياً بحتاً. فالعراق يشكّل أحد أبرز ميادين التنافس بين إيران والولايات المتحدة، ونتيجة الاقتراع قد تعزّز نفوذ إحدى القوتين أو تُضعفه.
وإلى جانب هذا التنافس، زادت الحروب الإقليمية الأخيرة، مثل التطورات في لبنان، وتصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل، والتغيّرات التي تلت سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، من هشاشة المشهد العراقي.
وتُعدّ العلاقة مع قوات "الحشد الشعبي" والفصائل المسلحة المقرّبة من إيران من أبرز القضايا التي ستواجه الحكومة المقبلة، ليس فقط على صعيد الأمن الداخلي، بل أيضاً في ما يخصّ السياسة الخارجية للعراق.
ومن جهة أخرى، فإن وجود القوات الأميركية ومستقبل العلاقات بين بغداد وواشنطن ما زالا من أبرز التحديات أمام صانعي القرار العراقيين.
وأياً يكن الحزب الذي سيقود الائتلاف الحكومي الكبير، فإنه سيواجه مجموعة من التحديات العاجلة والطويلة الأمد.
وتبقى أزمة الخدمات العامة المطلب الأول للمواطنين. فالانقطاع المتكرر للكهرباء، ونقص المياه، والتلوث الناتج عن حرق النفط، والبنى التحتية المتهالكة في العديد من المحافظات تعيق الحياة اليومية. وإلى جانب هذه الأزمات، يواجه العراق تهديدات مناخية خطيرة تشمل الجفاف، وانخفاض مناسيب دجلة والفرات، والهجرة الداخلية الناجمة عن تغيّر المناخ.
وسيتعيّن على الحكومة الجديدة اتخاذ قرارات مصيرية خلال فترة قصيرة، في ظل ائتلاف هش وضغوط من الجماعات المسلحة. وقد أظهرت تجارب الحكومات السابقة أن تزامن هذه الأزمات مع بنية سلطة قائمة على المحاصصة يحدّ بشدة من فاعلية أي حكومة.
ورغم كل الضغوط والشكوك، تظل انتخابات الثلاثاء إحدى أهم أدوات الانتقال السلمي للسلطة في العراق. لكن ما يجعل هذه الانتخابات حاسمة ليس عدد المقاعد التي يحصدها كل حزب، بل قدرة الحكومة المقبلة على التعامل مع الأزمات المتراكمة في البلاد.
فإذا عجزت الحكومة الجديدة عن تحسين الخدمات العامة، وكبح نفوذ الجماعات المسلحة، والابتعاد عن صراعات المنطقة، فقد يجد العراق نفسه مجدداً داخل حلقة من الجمود السياسي الذي تكرر مراراً خلال الأعوام الأربعة الماضية. أما إذا نجحت في اتخاذ خطوات إصلاحية ولو محدودة لكنها ملموسة، فقد تستعيد جزءاً من الثقة الشعبية المفقودة.
يبقى مستقبل العراق، كما كان ماضيه، رهناً بتوازن دقيق بين السياسة والأمن والمطالب الاجتماعية؛ توازنٍ لن تكون انتخابات اليوم سوى أول اختبار له.