وأكد خامنئي، في خطابه يوم الاثنين 3 نوفمبر (تشرين الثاني)، أن مشكلة إيران مع أميركا "جوهرية وذاتية"، وليست تكتيكية أو ظرفية؛ وكأنّ المشكلة تكمن في طبيعة أميركا نفسها، لا في سياسات النظام الإيراني.
وقد وضع شروطاً لتحسين العلاقة مع واشنطن هي في الواقع مستحيلة التحقق: الانسحاب الكامل لأميركا من الشرق الأوسط، وإزالة جميع قواعدها من المنطقة، وإنهاء دعمها لإسرائيل.
وخامنئي يدرك، كما يدرك الجميع، أن هذه الشروط لن تتحقق أبداً. وهذا يعني أنه يتعمّد إغلاق الطريق أمام أي تفاعل حقيقي.
في الواقع، وعلى خلاف ادعائه بأن عداء أميركا للنظام الإيراني "ذاتي"، فإنّ خامنئي هو الذي جعل العداء لأميركا مكوّناً أساسياً وضرورياً لبقاء النظام.
وتُظهر تجربة قيادته على مدى ستة وثلاثين عاماً أن سياسته الثابتة الأهم كانت الإصرار على العداء لأميركا وإسرائيل في الخارج، والعناد في مواجهة مطالب الشعب في الداخل.
يبدو أن خامنئي يدرك تماماً أنه إذا أُقيمت علاقات مع واشنطن فلن يبقى أي مبرّر لتبرير الوضع الكارثي في البلاد. فطالما يوجد "عدو خارجي"، يمكنه إلقاء اللوم في سوء الإدارة والفساد وانعدام الكفاءة على هذا العدو. إن صناعة العدو الدائمة هذه هي الحصن الرئيس الذي يحافظ به على شرعيته السياسية.
وفي هذا السياق، يُعدّ الحرس الثوري المستفيد الأكبر من استمرار العداء لأميركا. فقد تحوّل هذا العداء بالنسبة إلى الحرس إلى نوع من التجارة السياسية والاقتصادية.
فبيع النفط بطرق غير قانونية، والاستيراد عبر قنوات التهريب، والشركات الوهمية، والشبكات المالية السرّية، كلها نشأت في ظلّ العقوبات وعداء النظام لأميركا. وقد حقق قادة الحرس الثوري وأسرهم أرباحاً شخصية ضخمة من هذا الوضع، لذا من الطبيعي أنهم أيضاً يفضّلون بقاء الأمور على حالها.
ولم يعد الحرس الثوري يهيمن على الاقتصاد فحسب، بل بات يهيمن أيضاً على السياسة الخارجية للبلاد؛ من العلاقات مع الجيران إلى الموقف من إسرائيل وأميركا، إذ أصبح هو المتخذ الفعلي للقرار بالنيابة عن خامنئي.
حتى الاعتقالات الأخيرة التي طالت عدداً من الخبراء الاقتصاديين المستقلّين تشكّل دليلاً على هذا النهج: أي منع أي صوت ينتقد السياسات الكبرى للنظام أو المصالح الاقتصادية للحرس الثوري.
ويبدو أن النظام يستعدّ لتقييد مساحة النقد في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي.
فالكثير من قنوات "يوتيوب" والمناقشات التحليلية في الآونة الأخيرة تتحدث عن ضرورة تغيير السياسات الكبرى في البلاد، وهو تغيير يستهدف مباشرة خامنئي وقادة الحرس الثوري.
وقد كان ردّ النظام على هذه الموجة من الانتقادات مزيداً من الاعتقالات والتهديد والقمع.
وفي الذكرى السنوية لاقتحام السفارة الأميركية، عاد خامنئي ليدافع عن ذلك الحدث؛ وهو عمل يرى اليوم أغلبية الإيرانيين، بل وكثير من الشخصيات داخل النظام نفسه، أنه خطأ فادح ومكلف.
ومع ذلك، يواصل خامنئي بعناد الدفاع عن هذا العمل، متمسكاً بتفسيرات تاريخية محرّفة، من بينها زعمه الخاطئ بأنّ أميركا حرّضت العراق على شنّ الحرب ضد إيران.
غير أنّ الشواهد التاريخية تُظهر أن واشنطن، قبل اقتحام السفارة، كانت تسعى للحفاظ على علاقاتها مع طهران بل وحذّرتها من خطر هجوم عراقي محتمل.
وهذه الطريقة في إعادة صياغة التاريخ تبيّن أن خامنئي ومحيطه لا يزالون يسعون لإعادة إنتاج صورة "العدو الخارجي" لتبرير سياساتهم الفاشلة.
ويمكن رؤية تناقضات مشابهة حتى في بيان هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، الذي يقول في فقرة إن العدو لا يجرؤ على الحرب، وفي فقرة أخرى يزعم أن العدو لا يستطيع إبقاءنا في حالة "لا حرب ولا سلام"- من دون أن يترك في الوقت ذاته أي منفذ نحو السلام.
في النهاية، يبدو أن سياسة خامنئي تجاه أميركا لا تنبع من الأيديولوجيا بقدر ما تنبع من حسابات البقاء.
فهو يدرك أن استمرار العداء لأميركا هو الضمان لاستمرار بنية السلطة الحالية. لكن إذا وصلت لحظة شعر فيها أن بقاء النظام نفسه مهدّد، فكما حدث في قضية الاتفاق النووي، فقد يتراجع حتى عن مواقفه المتصلبة.
لقد أثبتت التجربة أن خامنئي، على الرغم من عناده وصلابته في الظاهر، يتراجع عن مواقفه في اللحظات الحرجة.
ومع ذلك، ما لم يشعر بالخطر، سيبقى عداؤه لأميركا بالنسبة إليه ليس مجرد قناعة أيديولوجية، بل أداة سياسية واقتصادية للحفاظ على السلطة. وهو فكرٌ مدمّر وعنيد.