لماذا لا يعني ضعف النظام الإيراني سقوطه؟

خلال الأشهر التي تلت حرب الـ12 يوماً، شدّد العديد من المحللين السياسيين ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي على فكرة واحدة: "النظام الإيراني قد ضعف".

خلال الأشهر التي تلت حرب الـ12 يوماً، شدّد العديد من المحللين السياسيين ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي على فكرة واحدة: "النظام الإيراني قد ضعف".
وبالنظر إلى بعض المؤشرات، فإن هذه الجملة صحيحة جزئياً، لكن ما المقصود تحديداً بضعف النظام السياسي؟ وهل يعني ذلك أنّ النظام الإيراني لم يعد قادراً على الحكم؟
النظام الإيراني قد ضعف، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه على وشك السقوط. ففي منطق السلطة، يمكن للضعف نفسه أن يتحوّل إلى أداة لإعادة التنظيم. لقد تعلّم النظام الإيراني من خلال الأزمات أنّ بإمكانه عبر ضبط مستوى الضغط والتوتر أن يتجنّب الانهيار، بل ويعيد إنتاج سلطته. وقد أظهر قادة النظام أنّ الأزمة ليست بالضرورة تهديداً، بل قد تكون مصدر استقرار واستمرارية.
هذا لا يعني أنّ النظام الإيراني مستقرّ، لكن طريقة فهم القوى السياسية لطبيعة هذا النظام الذي يفقد تدريجياً مواقعه يمكن أن تُطيل من عمره وتُضعف التفكير في سُبل مقاومته.
حين تُفسَّر كلّ الظواهر من منظور "الانهيار الوشيك"، تبقى الآليات التي يعيد النظام عبرها إنتاج نفسه مخفية عن الفهم السياسي. فالنظام الإيراني، في اللحظة التي يبدو فيها ضعيفاً، يكون في طور إعادة بناء ذاته. هذه الأيام، ينتقل قادة طهران من سياسة القوة الصلبة إلى سياسة مركّبة، ومن السيطرة المطلقة إلى إدارة متناقضة تجمع بين الانفتاح والقمع.
التراجع والتقدّم: منطق البقاء الجديد
يمكن رؤية أحد أبرز مظاهر هذا المنطق الجديد في قضية الحجاب. ففي كثير من مناطق طهران وبعض المدن الكبرى، تراجع النظام فعلياً عن الرقابة الصارمة على اللباس، رغم عودة "التنبيهات الشفوية".
إنّ وجود نساء سافرات في الشوارع، والنشاط الأكثر حرية للمقاهي – رغم تبعاته – اعتُبر لدى كثيرين تراجعاً للنظام عن مواقفه الأيديولوجية. لكن هذا التراجع ليس سوى نصف الحقيقة، إذ إنّ النظام الإيراني في الوقت نفسه الذي خفّض فيه جزئياً عدد عناصر شرطة الأخلاق في الشوارع، زاد من وتيرة الإعدامات والاعتقالات السياسية، بينما يواصل جهازه الأمني التقدّم في مجالات أخرى بقسوة متجددة.
النتيجة هي سلوك مزدوج: تراجع في جبهة، وتقدّم في أخرى. وهذا السلوك المتناقض ليس عشوائياً، بل هو جزء من أسلوب حكم جديد في زمن الأزمة.
في منطق البقاء المستجدّ، أدرك النظام أن السيطرة المطلقة ليست ممكنة ولا ضرورية. فهو يتخلى مؤقتاً عن بعض المجالات لتفريغ الضغط الاجتماعي، وفي المقابل يعزز سلطته في المجالات الأكثر حساسية.
وعليه، يمكن وصف سياسة النظام الحالية بأنها "تحرير مراقَب" – أي مجموعة من الحريات المحدودة تُمنح لاحتواء السخط، بالتوازي مع قمع صارم لضمان الانضباط السياسي.
لكن حتى هذه الحريات المحدودة ليست شاملة أو عامة. فوفقاً للصور المنتشرة من داخل إيران، تتركز هذه "الانفراجات" غالباً في طهران، وخصوصاً في الأحياء الثرية. وفي المدن الكبرى الأخرى، حين يتم الحديث عن "تسامح اجتماعي" أو "حجاب اختياري"، يكون ذلك في الغالب في مناطق ذات دخل مرتفع. لذا يمكن القول إنّ جزءاً صغيراً فقط من المجتمع يستفيد من هذا الوضع، بينما يبقى خطر الاعتقال والقمع قائماً للجميع.
في الواقع، يمنح النظام مجموعة محدودة من المواطنين حريةً ظاهريةً في التصرف كما يشاؤون، ليُظهر للآخرين أن "الحرية موجودة". هذه الحرية المعروضة هي جزء من آلية البقاء؛ فالنظام عبرها يُظهر نفسه بصورة مرنة ومتكيّفة، لتجنّب ردّات الفعل الاجتماعية الواسعة، وليُرمّم شرعيته المتآكلة في مجالات أخرى.
تغيير معنى الحرية
يمكن القول إنّ النظام الإيراني يسعى إلى إعادة تعريف مفهوم "الحرية". فالحرية هنا لم تعد شاملة، بل تحوّلت إلى امتياز محدود وطبقي، لا يملك أي حماية قانونية، في ظل وجود قوانين جاهزة للقمع. ما هو محدود ومشروط يُقدَّم على أنه حرية.
وهذا الانقسام ليس اجتماعياً فقط، بل يعمل أيضاً على المستوى الرمزي والنفسي. فصور هذه "الحرية المحدودة" التي تنتشر على شبكات التواصل الاجتماعي تُحدث إحساساً بالتطبيع وكأنّ المجتمع يتنفس والنظام صار أكثر ليونة. لكن تداول هذه الصور هو في حدّ ذاته جزء من منطق السيطرة. فالسلطة اليوم لا تمارس الإكراه فحسب، بل تُظهر الحرية لتشوّه معنى الرغبة في الحرية نفسها.
مع ذلك، فإنّ ما لم يتغيّر في النظام الإيراني هو جوهر القمع. ففي المرحلة التي تلت حرب الـ12 يوماً، لم تختفِ آليات الإقصاء بل أصبحت أكثر تعقيداً وشدّة. فتصاعد الاعتقالات والإعدامات يجري بالتوازي مع عرض مظاهر الانفتاح في الشوارع. إنّ صور الانفراج هذه ليست سوى غطاء لإعادة بناء أجهزة الرعب نفسها، ولهذا فهي لا تمتّ بصلة حقيقية إلى الحرية.
أزمة فهم السلطة
لقد غيّر النظام الإيراني منطق حكمه، لكن كثيراً من المحللين السياسيين يتجاهلون أبعاد هذا التحول، بما في ذلك أبعاده الأمنية والاقتصادية، فيفسّرون كلّ مؤشر على التراجع بأنه ضعف أو انهيار. بينما الواقع هو أنّ النظام، في قلب هذه الضعف الظاهري، ابتكر آلية جديدة للبقاء تقوم على التذبذب بين القسوة والتسامح.
النظام اليوم لا يُدار بالانضباط الصارم كما في الماضي، بل بسلوك مرن ومتناقض تتكامل فيه خطوات التراجع والتقدّم. ويمكن اعتبار هذا التغيير شكلاً من "التعلّم المؤسسي"، إذ أدرك النظام أن بقاءه لا يقوم على السيطرة المطلقة، بل على قدرته على ضبط مستوى الحرية وشدّة القمع.
لذلك، إذا اعتبرنا ضعف النظام الإيراني أو عدم تطبيقه للقانون مؤشراً على الانهيار، نكون قد فشلنا في فهم آلياته الجديدة. فالنظام خلق بدائل لتغطية ضعفه، واستراتيجيات لإعادة بناء شرعيته والتحكم في المجتمع أثناء الأزمات.
في إيران اليوم، لم يعد النظام يُرسّخ سلطته عبر إغلاق الأبواب بالكامل، بل عبر إبقائها نصف مفتوحة. الانفراجات الشكلية والتشدد المتزامن هما وجهان لعملة واحدة في منطق هذا النظام السياسي. فهم هذا المنطق ضروري لأي تحليل سياسي، لأنّه وحده يوضح أنّ "الضعف" ليس دوماً مقدّمة "السقوط"؛ بل قد يكون أحياناً استراتيجية جديدة للبقاء.