وفي المقابل، يُظهر سلوك وأسلوب حياة عدد كبير من المسؤولين وأُسرهم نزعة فاضحة نحو الترف والتحرر من القوانين التي تُفرض بقسوة على الناس العاديين.
ومن أحدث الأمثلة الصارخة على هذا التناقض فيديو حفل زفاف ابنة علي شمخاني، أحد أبرز الشخصيات الأمنية المقربة من المرشد علي خامنئي.
الفيديو، الذي صُوّر في فندق فاخر في طهران، يُظهر العروس بفستان مكشوف الكتفين (دكولتيه) والمدعوين من دون الحجاب الإجباري، ما أثار موجة واسعة من الغضب الشعبي واتهامات بالنفاق داخل المجتمع الإيراني.
من الحجاب الإجباري إلى ترف النخبة الحاكمة
بالتزامن مع هذا الترف المفرط، أعلنت السلطات في العاصمة خطة لتجنيد عشرات الآلاف من العناصر الجديدة لتطبيق قواعد الحجاب الإجباري بصرامة أكبر- حيث أشارت بعض التقارير الإعلامية إلى رقم80 ألف عنصر إضافي- في خطوة لا تعني سوى مزيد من الرقابة والسيطرة على الشارع.
يزداد هذا التناقض وضوحًا عندما نتذكر مقتل مهسا أميني في سبتمبر (أيلول) 2022، والتي أشارت تقارير منظمات حقوقية ولجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة إلى أنها قُتلت نتيجة العنف أثناء احتجازها من قبل شرطة الأخلاق، ما فجّر احتجاجات شعبية شاملة وعمّق الفجوة بين الدولة والمجتمع.
لكن شمخاني ليس سوى حلقة في سلسلة طويلة من ملفات الفساد الأخلاقي والاقتصادي التي تطال العديد من المسؤولين الإيرانيين.
ومن بين القضايا المثيرة للجدل، إدانة رضا ثِقَتي، الرئيس السابق لدائرة الثقافة والإرشاد الإسلامي في محافظة جيلان، بمئة جلدة والنفي بعد فضيحة جنسية، وهي قضية حاول النظام التخفيف من وقعها بتوصيفها كـ"خطأ فردي" لتجنب المساءلة المؤسسية.
وفي الجانب الاقتصادي، تكررت التقارير عن صفقات مشبوهة ومنح أراضٍ بطرق غير قانونية، من بينها قضية منح أراضٍ قرب إحدى المدارس الدينية التابعة لرجل الدين البارز كاظم صديقي، والتي أدت في النهاية إلى استقالته- ما كشف مجددًا عن تداخل خطير بين السلطة والثروة.
تجسد هذه الحالات نمطًا واضحًا من أنماط الحكم في إيران: فالقانون يُستخدم كـ"عصا" على المواطنين، لكنه يتحول إلى "مظلّة حماية" للمقربين من النظام.
وفي حين أن الأنظمة السلطوية الأخرى قد تضطر أحيانًا إلى إقالة أو محاكمة المسؤولين المتورطين بالفساد، فإن ما يحدث في إيران هو "تدوير بلا تكلفة"، فالمسؤول لا يُعاقَب، بل يُنقل من وزارة إلى منصب استشاري، أو من مجلس إلى هيئة أخرى.
وتنبع هذه المقاومة للمساءلة من ثلاثة عوامل رئيسية:
1. شبكات الولاء الأمنية.
2. الخوف من فتح ملفات متبادلة بين الأجنحة المتنافسة.
3. كلفة انهيار متسلسل إذا تم الكشف عن الفساد بشكل موسع.
والنتيجة: حصانة عملية للمسؤولين، وانعدام ثقة هيكلي بين المواطنين والدولة.
ويكشف تاريخ الأنظمة المغلقة في القرن العشرين أن الانهيار غالبًا ما يبدأ من الداخل، لا بسبب الضغط الخارجي.
في رومانيا عام 1989، أشعل ترف عائلة تشاوشيسكو الثورة الشعبية.
في الفلبين عام 1986، أطاح الغضب من ثروة عائلة ماركوس بالنظام.
في تونس عام 2011، أسقطت شبكات الفساد لعائلتي بن علي وطرابلسي شرعية النظام.
وفي ألمانيا الشرقية، أدى كشف امتيازات الحزب والفساد المنهجي إلى انهيار جدار الخوف.
وفي إيران اليوم، تلعب فيديوهات مثل زفاف ابنة شمخاني الدور ذاته، إنها تكشف التناقض الذي يحاول النظام إخفاءه.
البعد الأخلاقي في نشر الفيديوهات الكاشفة
الذين يزعمون أن نشر هذه الفيديوهات "غير أخلاقي" يخلطون بين الحياة الخاصة والمصلحة العامة. فالمعنيون هنا شخصيات عامة، تدخلت في حياة ملايين الناس بقراراتها، وفرضت عليهم قيودًا باسم الدين والأخلاق. وبالتالي فإن فضح ازدواجيتهم ليس انتهاكًا للخصوصية، بل عمل توعوي وأخلاقي.
وحين يُسلب الناس حرياتهم بسبب "شعرة خارجة من الحجاب"، يصبح كشف نفاق السلطة دفاعًا عن الحقيقة وليس "جريمة".
لقد أثبتت التجارب أن فضح الفساد والنفاق له أكبر الأثر على الفئة الرمادية في المجتمع- أي أولئك الذين لا يؤيدون النظام لكنهم مترددون في معارضته. هذه الفئة، بفضل تلك التسريبات، تستعيد وعيها وتبدأ في التمييز بين الخطاب الرسمي وواقع السلطة.
لهذا السبب، يجب الترحيب بنشر مثل هذه المواد، لأنها تحول الخوف إلى وعي، والجمود إلى فعل.
وحين يُطبق القانون بقسوة على المواطنين ويُخفَّف عن النخب، يبدأ رأس مال النظام الاجتماعي بالتآكل.
وتتولد عندها ثلاث ظواهر تهدد أي سلطة:
1. اللامبالاة المدنية.
2. المقاومة اليومية الهادئة.
3. الاستعداد النفسي لتقبل روايات بديلة عن النظام.
حتى بعض وسائل الإعلام القريبة من النظام اعترفت ضمنيًا بعمق هذا التناقض حين قالت، في معرض دفاعها عن شمخاني، إن "أسلوب حياة المسؤولين يجب ألا يكون غير قابل للنقد".
وهذا الاعتراف يعكس إدراكًا داخليًا بأن الفساد المترسخ داخل بنية النظام وأسر المسؤولين بات يُسرّع وتيرة الغضب الشعبي.
بين الفضح العام والاعتداء على الخصوصية
الحدّ الفاصل بين "الفضح العام" و"الاعتداء على الحياة الخاصة" واضح، فعندما يتعارض السلوك الشخصي لمسؤول مع القوانين التي يفرضها على الناس، يصبح الموضوع شأنًا عامًا.
في هذه الحالة، لا يُعد نشر الوثائق والفيديوهات فضيحة شخصية بل ممارسة لحق المجتمع في المعرفة والمساءلة.
إن فضح المسؤول يمكن أن يتحول إلى وسيلة لإعادة بناء الأخلاق العامة، لا إلى أداة انتقام. فالنظام الذي يستخدم "الأخلاق" كوسيلة للسيطرة، لكنه يعجز عن الالتزام بها داخل مؤسساته، سيواجه عاجلًا أم آجلًا أزمة شرعية حادة.
اليوم، أصبح التناقض بين "القانون لنا" و"الحرية لهم"متجذرًا في وعي الإيرانيين.
وتُظهر تجارب الاتحاد السوفياتي وألمانيا الشرقية ورومانيا وتونس أن الفضائح الموثقة والموجهة بعناية تسرّع الانهيار الداخلي، لأنها تزيل الخوف وتحوّل الوعي إلى فعل جماعي.
إذا أراد المجتمع الإيراني أن يُحوّل هذا الوعي إلى تغيير سلوكي ومؤسسي، فعليه أن يُصر على:
• التوثيق الدقيق.
• فضح المسؤول.
• والمتابعة القانونية والإعلامية المستمرة.
إن فضح الازدواجية البنيوية ليس مجرد كشف للفساد، بل هو إعادة بناء للأخلاق العامة- أخلاق تُختصر قاعدتها في جملة واحدة: "القانون إما يسري على الجميع، وإما لا يسري على أحد".