محاولة خامنئي وصبره الاستراتيجي.. انتصار أم تأجيل للسقوط؟

على مدى العقود الأربعة الماضية، كان القاسم المشترك في ردود علي خامنئي على الأزمات الدولية هو شراء الوقت. من الملف النووي والعقوبات إلى الحروب بالوكالة والتوترات المباشرة.
على مدى العقود الأربعة الماضية، كان القاسم المشترك في ردود علي خامنئي على الأزمات الدولية هو شراء الوقت. من الملف النووي والعقوبات إلى الحروب بالوكالة والتوترات المباشرة.
وقد كانت المعادلة بسيطة: بأقل قدر من التنازلات الخارجية وأقصى قدر من السيطرة الداخلية، يُطيل أمد الأزمة إلى أن يتغيّر المشهد الجيوسياسي.
واليوم، مع عودة عقوبات الأمم المتحدة وتفعيل "آلية الزناد" وتفاقم الأزمة الاقتصادية، يتم إحياء النهج ذاته: الصبر الاستراتيجي، واستعراض القوة الأمنية، والأمل في تغيّر موازين القوى في واشنطن.
ورغم تصاعد الضغوط، يبدو أن خامنئي يعود مرة أخرى إلى سياسة "إطالة الزمن المحسوبة". فبحسب ما تنقله مصادر من طهران، فإن الحساب الاستراتيجي للنظام يقوم على فكرة أن النظام إذا استطاع احتواء الاحتجاجات الداخلية وتقليص الانقسامات داخل النخبة الحاكمة، فبإمكانه تجاوز "عاصفة السنوات الثلاث المتبقية من رئاسة دونالد ترامب".
فعلى سبيل المثال، تُطرح تهديدات مثل الانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي (NPT)، لكن المبدأ الثابت في السياسة العملية هو "الصبر وحفظ البقاء". يُسمع التهديد بإغلاق مضيق هرمز من شخصيات مثل حسين شريعتمداري، لكن قادة النظام لا يؤيدونه علنًا.
مجلة "فورين أفيرز": التآكل البنيوي ومستقبلات محتملة
ترسم مجلة "فورين أفيرز" هذا المشهد بدقة، مشيرةً إلى أن الحرب التي استمرت 12 يومًا كشفت الهوّة بين الخطاب الأيديولوجي للنظام وقدراته الواقعية.
فإسرائيل دمّرت البنية التحتية العسكرية للنظام، ومهّدت الطريق أمام الولايات المتحدة لإلقاء 14 قنبلة خارقة للتحصينات على المواقع النووية الإيرانية.
وفي النهاية، خرج القائد البالغ من العمر 86 عامًا بصوت متهدّج ليعلن "النصر"، في عرضٍ لم يُظهر القوة بقدر ما أظهر هشاشة النظام.
وتشير المجلة إلى واقع مأزوم: إيران اليوم تضم92 مليون نسمة، معزولة عن النظام المالي العالمي، باقتصادٍ من بين الأكثر تعرضًا للعقوبات، وعملةٍ من الأقل قيمةً، وجواز سفرٍ من الأدنى تصنيفًا عالميًا، وإنترنت من الأكثر رقابةً.
وتطرح المجلة سؤالها المحوري في تقرير بعنوان "خريف المرشد": بعد خامنئي، إلى أي سيناريو ستتجه إيران؟
هل ستصبح روسية الطابع بزعيم قومي قوي؟ أم صينية النهج ببرغماتية اقتصادية؟ أم كورية شمالية بانعزالٍ تامّ؟ أم باكستانية بسطوة الحرس الثوري؟ أم تركية بشعبوية انتخابية واقتدارية الأغلبية؟
لكنها تتساءل أيضًا: هل يمتلك خامنئي البنية اللازمة للانتقال إلى أيٍّ من هذه النماذج؟
مجلة "نيوزويك": ميدان السرد والدبلوماسية المقطّعة
أما "نيوزويك" فتنظر إلى المشهد من زاوية التصعيد الخطابي والتداعيات الدبلوماسية.
ففي خطاب ترامب أمام الكنيست الإسرائيلي، أشاد بالهجمات المشتركة الأميركية-الإسرائيلية وبـ"القضاء على كبار الإرهابيين الإيرانيين" و"تدمير البرنامج النووي"، داعيًا طهران إلى التخلي عن الإرهاب والاعتراف بإسرائيل.
وردّت وزارة الخارجية الإيرانية بعنف، متهمةً الولايات المتحدة بأنها "أكبر منتج للإرهاب"، وممجّدة قاسم سليماني الذي قُتل بأمرٍ من ترامب في بغداد.
وعمليًا، أعلن عباس عراقجي أن طهران لن تشارك في اجتماع شرم الشيخ الذي يشارك فيه ترامب، مبررًا ذلك بأنه "لا يمكن الجلوس على طاولة واحدة مع من يهاجموننا ويهددوننا ويعاقبوننا في الوقت نفسه".
ويتماهى هذا الموقف مع الأمننة الداخلية التي برّرها حسن روحاني عبر دعمه لحملات اعتقال من سمّتهم السلطات "جواسيس الموساد"، في الوقت الذي شدّد فيه على شعار "لا للحرب".
أي إن النظام يسعى إلى إدارة المواجهة دون الانفجار الكامل، متبنّيًا سياسة "الجرح المفتوح" لتجاوز أزمة اسمها "ترامب" الذي بات، وفق التعبير الإيراني، "يضع قدمه على عنق النظام الإيراني".
مجلة "فورين بوليسي": توحيد القمة وقمع القاع
أما "فورين بوليسي" فتُسمّي هذه الاستراتيجية صراحةً: "الوحدة في الأعلى، والقمع في الأسفل".
وتقول المجلة إن خامنئي يرى السنوات الثلاث المقبلة صعبة للغاية، لكنه يراها أيضًا قابلة للإدارة بشرط شراء الوقت: رأب صدوع النخبة، تعزيز القبضة الأمنية، استعراض القوة الصاروخية والإقليمية، وانتظار تغيّر موازين القوى في الولايات المتحدة.
ويأتي هذا في سياقٍ صعب، فجميع عقوبات الأمم المتحدة أُعيد فرضها في 27 سبتمبر 2025 بعد تفعيل آلية الزناد، بينما يتوقع البنك الدولي انكماش النمو الاقتصادي الإيراني بنسبة تقارب 2 في المائة هذا العام واستمرار التدهور في العام المقبل.
وتخلص المجلة إلى أن من وجهة نظر طهران، مجرد البقاء نوعٌ من النصر، ولذلك فإن أفضل وسيلة هي قمع كل صوت معارض، عبر زيادة الإعدامات في الداخل والخطاب المتناقض في الخارج، حتى بلوغ "نهاية الصبر".
الصبر كحلٍّ منخفض التكلفة
غير أن هذا "الصبر" ليس بلا ثمن. فمع تراكم العقوبات القديمة والجديدة، يزداد تآكل المعيشة والاستثمار وتفكك النسيج الاجتماعي.
وقد يُجنّب النظام السقوط على المدى القصير، لكنه على المدى البعيد يُعمّق الهوة بين الدولة والمجتمع ويفاقم عزلة النظام.
وتذكّر "فورين أفيرز" أن الأنظمة السلطوية لا تملك سيناريوهات جاهزة للانتقال، فمن موت القائد إلى الصدمات الاقتصادية أو العسكرية، أو حتى الشرارات الاجتماعية المفاجئة، كلّها قد تُطيح بفعالية "الصبر الاستراتيجي".
ومن مقارنة هذه القراءات الثلاث يتبيّن أن النهج المهيمن في طهران ما زال هو نفسه: "شراء الوقت" عبر معادلة "الوحدة في القمة والقمع في القاع".
واستمرار هذا النموذج يعرّي أكثر الفجوة بين الخطاب عن القوة والقدرة الواقعية، ويُحوّل الدبلوماسية إلى إدارةٍ للأزمات بطريقة تضبط التوتر دون حلول حقيقية، فيما تتراكم الأعباء الاقتصادية ويزداد خطر تآكل الشرعية.
وفي النهاية، يبقى الاستنتاج الجوهري واضحًا: القدرة على الصمود، دون إصلاحٍ بنيوي، لا تحلّ الأزمة بل تؤجلها. وكلما طال هذا التأجيل، أصبح تحويل "الصبر" إلى استراتيجيةٍ بناءة أكثر استحالةً.
خلاصة القول أن الاستراتيجية الجوهرية لطهران اليوم هي ذاتها القديمة: اشترِ الوقت، اقمع الداخل، وانتظر تغيّر الخارج.