"على الأقل لدينا الأمن".. الشعار القديم يتحول إلى نكتة مُرّة في إيران ما بعد الحرب

الحياة في إيران تبدو معلّقة، كثيرون مقتنعون بأن الحرب ستعود، ولا يستطيعون التخطيط للمستقبل إلا بما يتعلق بكيفية تحمّلها حين تقع.
تقارير من متابعين داخل إيران

الحياة في إيران تبدو معلّقة، كثيرون مقتنعون بأن الحرب ستعود، ولا يستطيعون التخطيط للمستقبل إلا بما يتعلق بكيفية تحمّلها حين تقع.
في البداية، لم يبدو الأمر حتى كأنه حرب. في اليوم الأول- عندما قُتل قادة في الحرس الثوري وعلماء نوويون في طهران، ودُمّرت عدة مبانٍ- افترض كثيرون أن إسرائيل ضربت ورحلت. ولم يدرك الناس إلا في اليوم الثاني أن الأمر قتال شامل.
وقف إطلاق النار لم يجلب أي ارتياح. قليلون يعتقدون أنه سيستمر، والخوف من جولة أخرى بات يشكّل الحياة اليومية.
معهد "إيسبا" (ISPA)، الذي تديره الدولة وأجري استطلاعات واسعة النطاق، قال في أحدث استطلاع لسكان طهران إن أكثر من 50 في المائة يخشون حرباً أخرى، و15 في المائة يفكرون بمغادرة العاصمة بشكل دائم.
هذا التوقع عمّق حالة عدم الاستقرار التي تثقل حياة الناس أصلاً؛ المشقة الاقتصادية، الضغط الاجتماعي، عدم اليقين القانوني، والآن خطر النزوح المفاجئ أو الموت.
كل من أعرفه، وفقاً لإمكاناته، يبحث عن نوع من الاحتياط. بعضهم يتصور الهجوم الخارجي كوسيلة وحيدة لإنهاء الحكم السلطوي؛ آخرون يعارضون الحرب بسبب دمارها. وفي كلتا الحالتين، يفرض التهديد القائم خياراتهم.
"كيف هيأت نفسك لعودة الحرب مجدداً؟" هذا هو السؤال الذي أطرحه غالباً عندما يُثار الموضوع، والإجابات كاشفة.
أولئك الذين يملكون موارد أكبر يسعون لشراء منزل أو أرض خارج طهران في مناطق أكثر أمناً ليلجؤوا إليها إذا استؤنف القتال.
الوجهات المعتادة- المحافظات الشمالية مازندران وجيلان على شواطئ بحر قزوين- نفدت منها المساكن. المنازل والفلل القائمة أُجّرت بأضعاف أسعارها العادية، تاركة كثيرين من المتأخرين عالقين.
أي مكان عدا طهران
عندما جاء وقف إطلاق النار، بدأت والدة صديقي البالغة 69 عاماً، وهي ميسورة نسبياً، بتفحص إعلانات الإيجار واستأجرت شقة لمدة عام في إحدى قرى جيلان.
قالت إنها لا تريد أبداً أن تعيش يأس تلك الأيام الاثني عشر مجدداً، حين غادر الجميع وبقيت هي وزوجها وأبناؤها في واحدة من أخطر مناطق طهران، بجوار الثكنات والقواعد العسكرية.
لكن آخرين قالوا لي إنه، لعدم قدرتهم على تحمّل كلفة منزل ثانٍ أو إيجار في مكان آخر، لم يكن أمامهم سوى تخزين المواد الغذائية الأساسية.
فريدة، التي تعيش مع زوجها وطفليها في طهران، أبقت حتى الآن الشرائط اللاصقة التي وضعتها على النوافذ لتقليل تحطمها من الضربات الجوية. تقول إنها ستُستخدم مجدداً، وليس بيدها شيء آخر لتفعله.
صابر، 42 عاماً، يعمل في الدعم التقني، أجاب بأنه جهّز حقيبة ظهر فيها خيمة وأكياس نوم ولوازم أساسية حتى يتمكن، عندما تبدأ الحرب، من حملها والفرار إلى أي مكان.
الذين لديهم مكان يقصدونه خارج العاصمة يحافظون على أن يكون خزان وقود سياراتهم ممتلئاً دائماً.
يقول سينا، مدرّب شخصي في نادٍ فاخر: "أملأه قبل أن يصل إلى نصفه". ويضيف: "خلال الحرب، انتظرت ثلاثة أيام للحصول على البنزين ولم أستطع مغادرة طهران. الآن يبدأ القلق يتسلل إليّ مع انخفاض المؤشر".
ويصرخ: "أعرف أن الأمر يبدو جنونياً، لكننا لا نعرف متى قد تضرب إسرائيل، أليس كذلك؟ قد يكون في أي لحظة".
ثم هناك أولئك الذين ليست لديهم أي خطط على الإطلاق. بعضهم لا يحتمل مجرد التفكير بحرب أخرى. يفضّلون ألا يستعدوا لتفادي ضغوط أكبر. آخرون يرون الحرب مدمرة لدرجة تجعل أي احتياط يبدو عبثياً.
لسنوات، كان هناك تعبير كثير التكرار رداً على كل نقص أو احتجاج بشأن الوضع الداخلي للبلاد: "على الأقل لدينا الأمن".
اليوم، تحوّل هذا القول إلى نكتة مُرّة.

في الأيام الأخيرة ظهرت "أجواء الحرب" في وسائل الإعلام بإيران؛ والسؤال هو: إلى أي مدى تعكس هذه الأجواء الواقع؟ هل هناك فعلاً احتمال للعودة إلى الحرب أم إن الأمر مجرد صناعة إعلامية لأجواء الحرب؟
بالنظر إلى شواهد مثل نقل الطائرات الأميركية المزوِّدة للوقود إلى المنطقة وتصريحات القادة والمسؤولين الإسرائيليين والنظام الإيراني، وكذلك بالاعتماد على مبادئ ومنطق الحرب، أرى أن احتمال وقوع حرب حقيقي وجدي.
المسألة الوحيدة التي تبقى هي توقيت بدئها؛ التصريحات التي يطلقها بعض قادة الحرس الثوري بقولهم "لن تكون هناك حرب" لا ينبغي اعتبارها مؤكَّدة كثيراً، لأن مثل هذه التصريحات قيلت أيضاً قبل حرب الـ12 يوماً وتبيّن أنها خاطئة تماماً.
لفهم التوقيت المحتمل لبدء الحرب يجب أن نجيب عن ثلاثة أسئلة رئيسية:
1- لماذا قد يرغب الطرفان في دخول الحرب؟
2- إلى أي حد يستعدان فعلاً للحرب؟
3- ومتى يريدان الدخول في الاشتباك؟
الإجابة عن هذه الأسئلة توضّح إلى أي مدى ومتى قد تنخرط إسرائيل والنظام الإيراني في حرب جديدة.
قواعد الحرب العامة واضحة: تبدأ الحرب عندما تفشل الدبلوماسية والمفاوضات في حل الخلافات، ويكون أحد الطرفين أو كلاهما غير مستعد لقبول الوضع القائم أو يرى فيه ضرراً عليه. إذا اتخذنا هذه القاعدة أساساً، فإن احتمال الحرب بين إسرائيل وإيران يبدو مبرَّراً، بل وحتمياً.
أسباب هذا الاستدلال كالتالي:
النظام الإيراني يسعى رسمياً وعلنياً إلى تدمير إسرائيل؛ والمجتمع الدولي يشك بأن أهدافه النووية ذات طبيعة عسكرية، كما ينشط في زيادة مدى وقوة صواريخه، بينما فشلت المفاوضات الدولية في إيقاف هذا المسار.
من وجهة نظر إسرائيل، توفر هذه الظروف المنطق اللازم لبدء عملية عسكرية استباقية، لأن المفاوضات إذا لم تتمكن من وقف البرنامج النووي والصاروخي الإيراني، فقد تستنتج إسرائيل أن خيارها الوحيد للوقاية هو الهجوم العسكري قبل فوات الأوان، أي قبل أن يصبح النظام الإيراني مجهزاً بسلاح نووي محمول على صواريخ بعيدة المدى.
بعبارة أخرى، فإن منطق إسرائيل هو: بما أن النظام الإيراني يسعى لامتلاك القدرة النووية وزيادة إمكانياته الصاروخية، وبما أن مفاوضات الغرب (أوروبا وأميركا) فشلت، فقد ترى إسرائيل أن عليها أن توقف هذا المسار بنفسها.
بعض المحللين يرون حتى أن هدف إسرائيل قد يتجاوز تدمير البرنامجين النووي والصاروخي للنظام الإيراني إلى التفكير في إسقاط النظام ذاته، إذ من منظور كثير من النخب الإسرائيلية، فإن بقاء النظام الإيراني – حتى وهو ضعيف – يعني عودة التهديد في وقت لاحق، خاصة إذا تغيرت الظروف الدولية ورفعت العقوبات.
أما بالنسبة للنظام الإيراني، فهناك دافع قوي للاستمرار في برنامجه الصاروخي والنووي؛ فالصواريخ الباليستية القوية وبعيدة المدى هي الأداة الفعّالة الوحيدة التي يمتلكها في مواجهة إسرائيل. لذلك سيتجه النظام الإيراني بطبيعته إلى زيادة إنتاج وتنويع الصواريخ.
وتشير التقارير والتكهنات إلى أنه بعد حرب الـ12 يوماً جرى تخصيص ميزانية إضافية لزيادة القدرات الصاروخية للحرس الثوري. وقد أظهرت تجربة الحرب السابقة أن إسرائيل تعرضت خلالها لهجمات صاروخية ملحوظة، ومن المنطقي عسكرياً أن لا تسمح تل أبيب بزيادة سريعة في مخزون الصواريخ وقدرات إنتاج النظام الإيراني.
وعليه، من المنظور العسكري أمام إسرائيل خياران أساسيان:
1- استهداف إنتاج وتخزين الصواريخ بعمليات تخريبية أو غارات جوية.
2- أو الانخراط في تعزيز واسع النطاق لأنظمة الدفاع.
كلا المسارين له تكاليفه وقيوده الفنية واللوجستية؛ فمثلاً، تأمين الصواريخ الدفاعية المعقدة والغالية له قيوده الخاصة. وبالتالي، هناك سباق تسلح غير مرئي بين الحرس الثوري من جهة، وأميركا وإسرائيل من جهة أخرى؛ يسعى الحرس لبناء مزيد من الصواريخ الأقوى القادرة على تجاوز دفاعات إسرائيل، بينما يسعى الطرف المقابل لتعزيز مخزونه الدفاعي الصاروخي والاستعداد للهجوم المضاد.
هذا السباق يمكن أن يكون سبباً في قرب وقوع الحرب، لأن الطرفين يسرّعان استعداداتهما، والسؤال الرئيسي هو: أي طرف سيتخذ القرار العسكري أولاً وبأي تقييم؟
بعض التطورات قد تقدّم أو تؤخر توقيت الحرب:
نهاية الحرب في غزة: إذا انتهت حرب غزة، فإن القدرات العسكرية والموارد الإسرائيلية ستتحرر، ما يزيد من قدرة إسرائيل على التحرك ضد النظام الإيراني. كما أن خروج حماس (بوصفها وكيلاً لإيران) من المعادلة الإقليمية يقلل من قدرة النظام الإيراني.
عودة العقوبات: إن عودة العقوبات الدولية على النظام الإيراني تضع إسرائيل سياسياً في موقع أفضل، وتزيد اقتصادياً الضغط على إيران، ما قد يقلل قدراتها المالية واللوجستية لتغطية تكاليف الحرب المحتملة.
في الوقت نفسه، قد ترغب إسرائيل في رؤية أثر هذه العقوبات قبل أن تهاجم، وبالتالي تؤخر الضربة. لكن من ناحية أخرى، إذا أصبح مسار إنتاج الصواريخ في إيران مقلقاً، فقد تقدّم إسرائيل موعد الهجوم. هذه القرارات تعتمد على اعتبارات عدة، بينها التنسيق مع أميركا وتقدير الوضع الداخلي والدولي.
مؤشرات على التحضير للاشتباك
يمكن رصد بعض المؤشرات من الطرفين التي تدل على الاستعداد للمواجهة:
-نقل عدد من الطائرات الأميركية المزوِّدة للوقود إلى المنطقة، ومنها إلى قطر؛ ومن الناحية العملياتية يمكن اعتبار هذه الخطوة مؤشراً على الاستعداد لعمليات جوية كبيرة، إذ إن هذه الطائرات ضرورية عادة لتنفيذ العمليات بعيدة المدى ودعم المقاتلات.
-تكثيف زيارات كبار القادة العسكريين في النظام الإيراني للوحدات والمقرات العملياتية خصوصاً في الجنوب وحول مضيق هرمز؛ إذ غالباً ما تتزامن هذه الزيارات مع الاستعدادات العملياتية.
وفي النهاية، يمكن القول إن احتمال وقوع حرب بين إسرائيل وإيران جدي. الأسباب الرئيسية لذلك هي: التناقض الجذري بين الأهداف الأمنية للطرفين، وفشل الأدوات الدبلوماسية في وقف برامج النظام الإيراني النووية والصاروخية، وتصاعد الاستعدادات العسكرية لدى الطرفين.
توقيت اندلاع المواجهة لم يُحسم بعد، وهو مرتبط بعدة عوامل؛ منها سرعة تطوير البرنامج الصاروخي الإيراني، وتقدير إسرائيل لكلفة وفائدة الهجوم، وقرارات وتعاون الولايات المتحدة، والتأثيرات الاقتصادية والسياسية لعودة العقوبات.

أبرزت وفاة سمية رشيدي، العاملة المسجونة في سجن قرتشك ورامين، مرة أخرى قضية الحرمان الطويل من العلاج الطبي في سجون إيران. ويُظهر استعراض الملفات السابقة أن هذه الوفيات ليست حالات استثنائية، بل جزء من نمط منظّم أخذ حياة السجناء السياسيين منذ عقود.
منذ تأسيسه، لم يكن السجن في النظام الإيراني مجرد مكان لتنفيذ الأحكام القضائية، بل استخدم أيضاً كأداة للسيطرة الاجتماعية وإسكات الأصوات المعارضة.
يُحتجز المعارضون والنقاد السياسيون، والصحفيون، والناشطون النقابيون والدينيون، وحتى المواطنون الذين شاركوا فقط في احتجاجات الشوارع أو أدينوا بجرائم أخرى، في سجون تتجاوز فيها ظروف الاحتجاز مجرد الحرمان من الحرية.
في هذه السجون، لا تُعطي صحة السجناء أي أولوية، بل يتم تجاهلها عمداً.
يمكن أن يشمل الحرمان الطبي تأخير النقل إلى المستشفى، ومصادرة الأدوية المرسلة من قبل العائلة، أو تقليص الوصول إلى الأطباء المتخصصين. في مثل هذه الظروف، يصبح السجناء المرضى عرضة لـ"الموت التدريجي"، الذي يوصف في الأدبيات الحقوقية بمصطلح "الإعدام الصامت".
حرمان السجناء المرضى من العلاج المناسب ليس مجرد إهمال أو سوء إدارة، بل يعتبره خبراء حقوق الإنسان في الأمم المتحدة "شكلاً من أشكال التعذيب".
في بعض الحالات، يُطلب من السجناء الحصول على إذن للعلاج من خلال تقديم تعهد أو حتى الاعتراف في التلفزيون. وترسل العائلات الأدوية، لكن غالباً لا تصل هذه الأدوية أو تصل بتأخير طويل، ما يضع السجين في مواجهة الموت التدريجي.
يضعف السجين يوماً بعد يوم، ويتضاءل أمله في النجاة. في كثير من الحالات، عندما يُسمح أخيراً بالنقل إلى المستشفى، يكون الوقت قد فات ولا يجدي العلاج نفعاً.
صرّحت عائلات الضحايا مراراً، لكن غالباً ما واجهت تهديدات وضغوطاً أمنية.
وأصدرت منظمات دولية مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش بيانات متكررة، لكن نظام طهران لم يحاسب أي مسؤول قضائي أو إداري على هذه الوفيات.
حتى في حالات مثل ستار بهشتي أو بهنام محجوبی التي حظيت بتغطية عالمية واسعة، أغلقت الملفات أخيراً وتم تبرئة المسؤولين.
وتمثل وفاة سمية رشيدي في سجن قرتشك نموذجاً واضحاً. فقد عانت فترة طويلة من المرض، لكن إدارة السجن امتنعت عن نقلها إلى المستشفى في الوقت المناسب.
تم نقلها إلى المستشفى فقط عندما أصبح وضعها حرجاً ودخلت في غيبوبة، إلا أن هذا النقل المتأخر لم يعد ينفع، وتم الإعلان رسمياً عن وفاتها في 25 سبتمبر (أيلول) 2025.
وأكد ناشطو حقوق الإنسان أن وفاة رشيدي لم تكن "حادثاً" عابراً، بل مثالاً صارخاً على سياسة الحرمان من العلاج، وأنها كانت ضحية "القتل التدريجي المتعمد". وسرعان ما أصبحت سمية رمزاً آخر للظلم الهيكلي في سجون إيران.
الأزمة في جميع سجون إيران
يشير تقرير لـ"إيران إنترنشنال" استناداً إلى موقع "ديده بان إيران" إلى أن السجناء السياسيين ليسوا وحدهم من يُعدم صامتاً بهذه الطريقة.
خلال العام الماضي، فقد نحو 30 سجينا حياتهم في سجن طهران الكبير فقط بسبب غياب الأطباء والمرافق الطبية.
هذه الإحصاءات صادمة بحد ذاتها، لكن عند دراسة التفاصيل، تتضح صورة كاملة عن الأزمة.
تعد الوحدة الخامسة في سجن طهران الكبير خاصة في حالة حرجة. فالازدحام، ونقص المساحات، وغياب خدمات الرعاية الاجتماعية تجعل العديد من السجناء يعيشون في ظروف غير إنسانية.
بعضهم لا يملك حتى سريراً للنوم ويضطر للنوم على الأرض أو في الممرات.
تفتقر الإدارة الطبية للسجن إلى المعدات المتخصصة والأطباء الدائمين، وأي نقل إلى مستشفى خارج السجن يتطلب تصاريح أمنية غالباً ما لا تصدر أو تتأخر طويلاً.
في الفترة القصيرة بين 12 و25 سبتمبر (أيلول)، فقد خمسة سجناء آخرين على الأقل حياتهم في سجون مختلفة، من بينها قرتشك ورامين، كجوئی كرج، ويزد.
وكان بين هؤلاء الضحايا أربع نساء، ما سلط الضوء مرة أخرى على أوضاع النساء السجينات.
لفهم عمق الأزمة، يكفي الاطلاع على ملفات محددة سجلت خلال العقدين الماضيين في وسائل الإعلام وتقارير حقوق الإنسان.
تظهر هذه الروايات أن الحرمان من العلاج ليس خطأ عارضاً، بل نمط متكرر في وفاة السجناء السياسيين.
وقد توفي ساسان نيك نفس، الناشط المدني، وبكتاش آبتين، الشاعر وصانع الأفلام، وجواد روحي، المواطن المحتج، خلال السنوات الماضية في سجون النظام الإيراني نتيجة غياب الخدمات الطبية، والضغوط النفسية، والتعذيب.
ومن النماذج الأخرى للإعدامات الصامتة في إيران:
-أكبر محمدي (2006)
أكبر محمدي، طالب عضو في الجمعية الإسلامية وأحد المعتقلين في أحداث حرم جامعة طهران 1999، توفي بعد عدة سنوات من السجن في أغسطس (آب) 2006 في سجن إيفين.
قالت عائلته إنه كان يعاني من أمراض متعددة ويحتاج إلى أدوية خاصة، لكن إدارة السجن لم تقدم له الرعاية اللازمة.
أدى إضرابه الطويل عن الطعام وامتناع إدارة السجن عن نقله إلى مستشفى مناسب في النهاية إلى وفاته.
كانت وفاة محمدي من أوائل الحالات التي لفتت الانتباه العام إلى قضية الحرمان من العلاج في السجون.
-أمير حسين حشمت ساران (2009)
أمير حسين حشمت ساران، الأمين العام للجبهة المتحدة للطلاب والشباب في إيران، اعتُقل بعد احتجاجات عام 2009، وأصيب بنزيف دماغي في سجن "رجائي شهر".
امتنع مسؤولو السجن عن نقله فوراً إلى المستشفى، ولم يُنقل إلا عندما أصبح وضعه حرجاً، ولكن هذا النقل لم يفلح.
اعتبرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" وفاته نتيجة لإهمال متعمد من قبل السلطات تجاه صحة السجناء.
-هدي صابر (2011)
هدي صابر، صحفية وناشطة وطنية-دينية، أقدمت على إضراب عن الطعام احتجاجاً على وفاة هالة سحابي أثناء مراسم دفن مهدي بازرغان.
بعد آلام قلبية شديدة، نُقلت متأخرةً إلى المستشفى، وهناك توفيت.
أفاد الشهود أن حراس السجن وإدارة السجن في إيفين تجاهلوا علامات بداية الأزمة القلبية.
ووصفت وفاة صابر من قبل كثيرين بأنها "قتل بسبب التأخر في العلاج".
-ستار بهشتي (2012)
ستار بهشتي، مدون وعامل، اعتُقل في 2012، ونُشر خبر وفاته بعد أيام قليلة. أكد الطب الشرعي آثار التعذيب على جسده.
وقد اشتكى في التحقيقات من آلام شديدة، لكنه لم يتلق أي علاج.
اعتبرت منظمة العفو الدولية وفاة بهشتي مثالاً صارخاً على الإهمال الطبي والعنف المنظم، وطالبت بإجراء تحقيق مستقل.
-وحيد صيادي نصيري (2018)
وحيد صيادي نصيري، سجين سياسي شاب محكوم بسبب نشاطه الاحتجاجي، أصيب بمرض كبدي في سجن لنغرود قم وكان بحاجة إلى علاج عاجل.
ومع ذلك، أجلت إدارة السجن مراراً نقله إلى المستشفى، وتوفي في ديسمبر (كانون الأول) 2018 نتيجة لهذا الإهمال.
وقد لفتت وفاته انتباه الرأي العام على وسائل التواصل، وأعادت إلى الواجهة قضية "حق العلاج" في السجون.
-كاوس سيد أمامي (2017)
كاوس سيد أمامي، أستاذ جامعي وناشط بيئي، اعتُقل في 2017، وأُعلن عن وفاته في إيفين بعد أسبوعين فقط.
وزعم المسؤولون القضائيون أنه انتحر، لكن عائلته رفضت هذا الرواية.
وكان الضغط النفسي، العزلة في الزنزانة الانفرادية، وغياب الرعاية الطبية من العوامل الرئيسية التي أدت إلى وفاته.
-بهنام محجوبي (2021)
بهنام محجوبی، من الصوفيين الجناباديين، كان مصاباً بالصرع. أكد الأطباء أن استمرار سجنه خطر على حياته، لكن مسؤولي السجن لم يزودوه بأدويته الضرورية في الوقت المناسب.
وحذر مراراً في رسائله ومكالماته من أنه في خطر، وأخيراً في فبراير (شباط) 2021 دخل في غيبوبة وتوفي في مارس (آذار) من نفس العام في مستشفى لقمان.
اعتبرت منظمة العفو الدولية وفاته نتيجة للتعذيب والحرمان من العلاج.
-سمية رشيدي (2025)
سمية رشيدي، العاملة المسجونة في سجن قرتشك ورامين، تعرضت لنوبات تشنج بعد أشهر من الحرمان من العلاج وتجاهل وضعها الصحي الحرج.
نُقلت متأخراً إلى المستشفى، لكن الوقت كان قد فات، وتوفيت في 25 سبتمبر (أيلول) 2025.
وأصبحت وفاة رشيدي، خصوصاً بعد تقارير عن وفيات مشابهة في سجن طهران الكبير وسجون أخرى، رمزاً جديداً لـ"الإعدام الصامت".
استمرار دورة الموت
ينبغي البحث عن سبب استمرار هذا الوضع في الهيكل السياسي والقضائي لإيران.
في ظل هيمنة النظرة الأمنية على كل شيء، يُتخذ قرار العلاج للسجين ليس وفق الحاجة الطبية، بل وفق اعتبارات أمنية.
لا توجد أي جهة رقابية مستقلة على السجون. وتسود ثقافة الحصانة: لا يقلق أي موظف أو مسؤول من المحاكمة بسبب وفاة السجناء، وفي النهاية يصبح الحرمان من العلاج أداة للضغط والترهيب السياسي.
وفاة السجناء السياسيين ليست مجرد مأساة فردية، بل لها تبعات أوسع على المجتمع.
تخلق الحكومة حالة خوف عام، وتظهر أن بإمكانها الحكم على أي شخص بالموت التدريجي حتى وإن لم تقتله مباشرة.
هذه الوفيات نتاج هيكلية حيث أصبح الحرمان من العلاج أداة للقمع، لكن التجربة أظهرت أن موت هؤلاء السجناء لم يسكت الأصوات، بل عزز رموز المقاومة.

أفادت بعض المصادر المحلية بوجود كثيف للقوات العسكرية المزودة بالمركبات القتالية والمدرعة في شوارع وزوايا مدينة زاهدان وغيرها من مدن محافظة بلوشستان إيران، بمناسبة الذكرى الثالثة لما يُعرف بـ"الجمعة الدامية" في زاهدان.
وذكر موقع "حال ووش"، الذي يغطي أخبار محافظة بلوشستان، نقلاً عن مصادر مطلعة، أن أجواء زاهدان منذ صباح يوم الثلاثاء 30 سبتمبر (أيلول)، تشهد حالة أمنية مشددة، حيث تمركزت القوات المسلحة في نقاط مختلفة من المدينة.
ووفقاً لهذه المصادر، فإن باقي مدن بلوشستان أيضاً واجهت منذ ساعات الصباح الأولى يوم 30 سبتمبر (أيلول) أجواء أمنية مشددة.
ونقل موقع "حال ووش" عن مواطنين بلوش قولهم إن ذكرى الجمعة الدامية تمثل دائماً تذكيراً بأحد أكثر حملات القمع دموية في السنوات الأخيرة، وأن الحكومة تسعى من خلال فرض الأمن المشدد على المدن لمنع أي تجمع أو مراسم تأبينية.
وحدثت الجمعة الدامية في زاهدان بتاريخ 30 سبتمبر (أيلول) 2022، عندما نظم المصلون احتجاجاً على اعتداء قائد شرطة في تشابهار على فتاة بلوشية تبلغ من العمر 15 عاماً.
وردّت قوات الأمن والعناصر التابعة للنظام الإيراني، بما في ذلك القناصة المتمركزون على أسطح المباني، بإطلاق النار على المتظاهرين وسكان آخرين في مصلى زاهدان.
أسفر هذا الهجوم عن مقتل ما لا يقل عن 105 مواطنين، بينهم 17 طفلاً ومراهقاً، وإصابة ما لا يقل عن 300 آخرين بعاهات دائمة أو جزئية، مثل الشلل النصفي، العمى، أو فقدان أعضاء.
وبعد شهر تقريباً، وفي 4 نوفمبر (تشرين الثاني)، وقع هجوم مميت آخر في مدينة خاش، حيث أطلق عناصر الأمن الرصاص على المصلين، ما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 18 شخصاً وإصابة عشرات آخرين.
ومنذ ذلك الحين، وعلى مدار أكثر من عام، نظم سكان زاهدان مسيرات وتجمعات أسبوعية، عُرفت باسم "الجمعة الاحتجاجية".
ورفع المتظاهرون في هذه المسيرات شعارات ضد النظام الإيراني والمرشد علي خامنئي.
وخلال السنوات الثلاث الماضية، ولا سيما أثناء الاحتجاجات المستمرة للمواطنين، كانت مدينة زاهدان وغيرها من مدن بلوشستان تشهد دائماً أجواء أمنية وعسكرية مشددة.
وتصاعد هذا التواجد الأمني، إلى جانب عمليات الاستدعاء والاعتقال العنيف للمواطنين البلوش، في السنوات الثلاث الماضية، خصوصاً مع اقتراب ذكرى الجمعة الدامية.

غادر الرئيس الإيراني مسعود بزشكیان، طهران الأسبوع الماضي متوجهاً إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك وهو مطمئن إلى الضوء الأخضر الهادئ وغير المعلن من المرشد علي خامنئي، لبدء مفاوضات سرية مع واشنطن.
كان يأمل أن تمنع هذه المفاوضات عودة عقوبات الأمم المتحدة.
وبحسب اثنين من أعضاء الوفد المرافق له، قال خامنئي في جلسة خاصة للرئيس إنه إذا كان الحوار المباشر مع الأميركيين يمكن أن يوقف عودة العقوبات، فإن وزير الخارجية يستطيع الدخول في مفاوضات مباشرة وسرية معهم.
لكن في اللحظة نفسها تقريباً التي كانت طائرة الوفد الإيراني تعبر المحيط الأطلسي، خرج خامنئي في خطاب ناري عبر التلفزيون الرسمي ورفض بشكل قاطع أي تفاوض مع واشنطن. تحول مفاجئ قال مصدران مطلعان إنه أوقع بزشكیان ووزير خارجيته في صدمة وذهول.
عباس عراقجي، وزير الخارجية الإيراني قال في مقابلة خاصة مع عدد من الإيرانيين المقيمين في أميركا، الذين حضروا إلى الفندق حيث يقيم الوفد الإيراني للمشاركة في اجتماع مغلق، إن التفاوض المباشر مع واشنطن كان السبيل الوحيد لمنع عودة عقوبات الأمم المتحدة، لكن هذه الفرصة ضاعت برفض خامنئي.
ثلاثة من الحاضرين في هذا اللقاء الذين طلبوا عدم كشف أسمائهم أكدوا ذلك لـ"إيران إنترناشيونال".
هذا الحدث يوضح أن المرشد وكبار المسؤولين السياسيين في إيران على خلاف حاد بشأن طريق الخروج من المأزق النووي، وهو مأزق تفاقم بعد الحرب التي استمرت 12 يوماً بين إسرائيل وإيران وزاد احتمال اندلاع مواجهات جديدة.
عراقجي وستيف ویتكوف، المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب في شؤون الشرق الأوسط، أجريا محادثات غير مباشرة على مدى شهرين، لكنها توقفت مع بدء الهجوم المفاجئ للجيش الإسرائيلي على مواقع إيرانية.
واستكملت الهجمات الإسرائيلية بغارات جوية أميركية على ثلاثة مراكز نووية رئيسية لإيران. هجمات دمرت جزءاً كبيراً من قدرات تخصيب اليورانيوم الإيرانية، لكنها لم تحل المسألة الجوهرية: النزاع بين الغرب وطهران حول البرنامج النووي.
الاجتماع الخاص في مانهاتن
وبعد ساعات من رفض مجلس الأمن مشروع قرار روسي-صيني لتمديد تعليق العقوبات على إيران، اجتمع بزشكیان وعراقجي مع مجموعة صغيرة من الخبراء والأكاديميين الإيرانيين في فندق "لاكشري كولكشن" بمانهاتن.
كان يفترض أن يستمر الاجتماع ساعة واحدة. وقبل بدايته الرسمي، أجرى عراقجي في بهو الفندق محادثة صريحة ومباشرة مع عدد من المدعوين.
وأكد قائلاً: "الطريقة الوحيدة لمنع تفعيل آلية السناب باك هي الحوار المباشر مع أميركا، ومن الآن فصاعداً أيضاً فإن المفاوضات المباشرة وحدها يمكن أن تحول دون تصعيد المواجهات، لكننا لا نملك إذناً للتحدث مباشرة مع أميركا".
وفي هذه المحادثة الخاصة، اقترح عراقجي على الحاضرين أن يطلبوا من بزشكیان إقناع المرشد بضرورة التفاوض المباشر مع الولايات المتحدة.
تراجع خامنئي
ثلاثة من المشاركين في هذا الاجتماع قالوا لـ"إيران إنترناشيونال" إن عراقجي قدم قبل بداية اللقاء الرسمي بين بزشكیان والإيرانيين مزيداً من التفاصيل حول المفاوضات.
ووفقاً له، فإن الرئيس الإيراني أثار موضوع الحوار المباشر مع المرشد قبل مغادرة طهران. الأميركيون، عبر ویتكوف، وضعوا ثلاثة شروط أساسية لأي مفاوضات:
1. عقد جلسات علنية أمام الصحفيين قبل وبعد المفاوضات المباشرة بين إيران وأميركا.
2. إعلان مكان تخزين 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب داخل إيران.
3. منح مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وصولاً كاملاً إلى المواقع النووية.
قال عراقجي إن خامنئي رفض المفاوضات العلنية، لكنه وافق صراحة على "مفاوضات مباشرة سرية"، بشرط أن تمنع تفعيل العقوبات.
مع ذلك، ظهر خامنئي على التلفزيون رافضاً أي تفاوض. موقف مناقض تماماً لما قاله في الخفاء، ما أثار صدمة لدى الوفد الإيراني في نيويورك.
الاجتماع الخاص الذي استمر ساعة جمع مجموعة من الأكاديميين والخبراء الإيرانيين، منهم هوشنك أمير أحمدي، الداعم القديم للتواصل بين إيران وأميركا، ولي نصر، الباحث والمستشار السابق في وزارة الخارجية الأميركية، تريتا برسي، نائب المدير التنفيذي لمعهد كوينسي، وفرناز فصیحی، الصحفية البارزة في نيويورك تايمز.
كما حضر اللقاء هادي كحال زاده، الباحث في معهد كوينسي، هادي صالحي أصفهاني، أستاذ الاقتصاد في جامعة إلينوي، مسعود دلبري، خبير الطاقة، علي أكبر موسوي خوئيني، النائب السابق في البرلمان وناشط إصلاحي، محمد منظر بور، صحفي مستقل، ويوسف عزيزي، طالب دكتوراه في جامعة فيرجينيا تك.
كان أمير أحمدي أول المتحدثين واستحوذ على نحو نصف وقت الجلسة. خلال 25 دقيقة رسم أمام إيران طريقاً ذا خيارين واضحين: "الاستسلام أو السعي نحو القنبلة النووية".
جادل بأن مشكلة أميركا مع إيران ليست برنامجها النووي بل قوتها الإقليمية.
وقال إن واشنطن "لا تريد إيران قوية". وأوصى بزيادة الاستثمار في القدرات الصاروخية والعسكرية مؤكداً أن الوقت حان لأن تسعى إيران إلى الردع النووي.
طال حديثه إلى درجة أن أمير سعید إیرواني، ممثل إيران في الأمم المتحدة، طلب منه إنهاء مداخلته.
كان بزشكیان يدون ملاحظات طوال الوقت. وعند عودته إلى طهران قال للصحفيين في المطار إن أحد الإيرانيين في اللقاء أكد أن "أميركا تريد إيران ذليلة وضعيفة، ولا تريد إيران قوية". لم يذكر اسم أمير أحمدي لكنه كرر فكرته حرفياً.
وبسبب طول مداخلة أمير أحمدي، لم يتح الوقت إلا لعدد قليل من الآخرين لإبداء آرائهم.
قال تريتا برسي إن العقوبات الأساسية هي العقوبات الأميركية، أما عودة عقوبات الأمم المتحدة فهي تزيد الموقف تعقيداً لكنها ليست القضية الرئيسية.
وفي تحليله لموقف الصين بعد عودة العقوبات الدولية، توقع أن تواصل بكين شراء النفط الإيراني وربما تتجاهل القيود.
هزّ عراقجي وبزشكیان برأسيهما تأييداً لحديث بارسي بشأن استمرار شراء الصين للنفط الإيراني.
كما شدد برسي على أن "السبيل الوحيد لتجنب تفاقم الأزمة واستغلال إسرائيل لعزلة إيران هو الحوار المباشر مع واشنطن".
أما ولي نصر فقدم تقييماً أكثر قتامة، قائلاً إن طهران أضاعت فرصة ثمينة في عهد جو بايدن للتوصل إلى اتفاق جديد مع الولايات المتحدة.
حكومة في أزمة
يكشف التغير المفاجئ في موقف المرشد خامنئي بشأن المفاوضات المباشرة مع أميركا عن التناقضات العميقة في قلب مؤسسة صنع القرار في طهران، وعن ارتباك قادة إيران في البحث عن مخرج من الأزمة الحالية.
فخامنئي وافق سراً على المفاوضات السرية بشروط، لكنه تراجع علناً. أما عراقجي، أرفع دبلوماسي في البلاد، فقد أبلغ بعض الإيرانيين المقيمين في أميركا بأن حتى السياسيين في إيران يدركون أن الحوار المباشر هو الطريق الوحيد المتبقي، غير أن المرشد هو من يضع العراقيل.
وتعكس هذه القصة وضع حكومة غارقة في أزمة عميقة: رئيس الجمهورية، ووزير خارجيته، وكثير من السياسيين يؤكدون ضرورة خفض التوترات لتجنب حرب أخرى، لكن خامنئي وحده يقف ضد ذلك، بمواقف متقلبة تربك حتى أقرب مساعديه.

بعد أسابيع وربما شهور من التعليق والقلق في الرأي العام، أخيرًا تم تفعيل "آلية الزناد" ضد إيران، بعدما رفض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار المقترح من روسيا والصين بتمديد تعليقها لمدة 6 أشهر.
وبهذا، تُعاد مرة أخرى مجموعة من عقوبات مجلس الأمن عمليًا، والتي كانت مُعلَّقة لمدة عشر سنوات، لتُفعّل مجددًا ضد طهران.
والعقوبات التي يشملها ذلك: حظر التكنولوجيا النووية (بما في ذلك تخصيب اليورانيوم وبناء وتطوير المفاعل المائي الثقيل)، حظر استيراد أو تصدير المعدات والمواد والتقنيات الحساسة المرتبطة بالبرنامج النووي، حظر استيراد وتصدير الأسلحة التقليدية (الأسلحة الخفيفة والثقيلة)، قيود متعلقة بالصواريخ الباليستية، حجز الأصول وتجميد حسابات الأفراد والكيانات المرتبطة بالبرامج النووية أو الصاروخية، قيود مشددة على المعاملات المصرفية والاستثمارات الأجنبية في القطاعات الحساسة، تفتيش إجباري للشحنات المشبوهة في طريقها إلى إيران (السفن والطائرات)، وحظر خدمات التأمين والدعم للسفن الحاملة لشحنات ذات صلة.
نقطة تحول جديدة لإيران
عودة عقوبات مجلس الأمن المعلقة لا تقع تبعاتها على النظام الإيراني فحسب، بل تدفع إيران بأسرها إلى مرحلة جديدة.
وإيران اليوم، بطبيعة الحال، ليست هي إيران قبل الاتفاق النووي 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة)، فهي مختلفة تمامًا عن إيران التي تكبّدت سلسلة قرارات وعقوبات منذ 2006.
وهناك اختلاف بارز يتعلق بالوضع الاقتصادي وعائدات النفط اليوم مقارنة بعهد الرئيس الأسبق، أحمدي نجاد؛ حيث كان إجمالي عائدات النفط خلال ثماني سنوات للحكومتين التاسعة والعاشرة يُقدَّر بنحو 600 إلى 700 مليار دولار.
ومن البديهي أن إجمالي عائدات النفط والغاز والبتروكيماويات لإيران الآن، بسبب عقوبات الولايات المتحدة وقيود طهران على المبيعات، يبعد بفارق ملموس عن وضعه قبل عقدين.
وهذا الوضع أدى أيضًا إلى انخفاض حاد في قيمة التومان مقارنة بفترة ما قبل الاتفاق النووي. فقد ارتفع سعر الدولار في السوق الحرة من نحو ألف تومان في بداية التسعينيات (العقد 90) ليتجاوز 110 آلاف تومان الآن.
وستجعل عقوبات مجلس الأمن أيضًا المعاملات بالدولار وتحويل رؤوس الأموال أكثر صعوبة. كما سترفع شركات التأمين والناقلات البحرية من مستوى المخاطرة عند التعامل مع إيران، وهو ما يعني ارتفاع تكاليف التصدير والاستيراد، وزيادة أسعار السلع الوسيطة وقطع الغيار الصناعية.
كل هذا يحدث بينما معدلات التضخم السنوي تجاوزت 35 في المائة، ومعدل التضخم من نقطة إلى نقطة تجاوز 40 في المائة.
ولا شك أن الظروف الاقتصادية، المرتبطة بأزمات في تأمين الطاقة والمياه، واتساع ارتفاع أسعار السلع الأساسية، سيزيد من معاناة شريحة كبيرة من المجتمع، خصوصًا أصحاب الرواتب والمستخدمين والمتقاعدين والفئات المحرومة.
عودة العقوبات في سياق ما بعد الحرب
ما يعقّد وضع إيران أكثر هو عودة العقوبات الجديدة في سياق ما بعد الحرب التي استمرت 12 يومًا. حرب، رغم أنها تبدو أنها توقّفت عند وقف إطلاق النار، لكنها ليست سوى توقف مؤقت للصراع.
وقبل أيام قليلة قال نتنياهو أمام قادة الجيش الإسرائيلي: "يجب تدمير محور الشر الإيراني. هذا الهدف في متناول اليد، وسيكون مهمتنا في العام الجديد".
كما تحدث خامنئي في أحدث خطاب له من مخبئه عن "انغلاق باب المفاوضات مع أميركا" وأكد استمرار دعم طهران لحزب الله.
وهاتان الرؤيتان، إلى جانب استمرار إطلاق الحوثيين للصواريخ على إسرائيل، ونشر معلومات جديدة عن بناء منشآت صاروخية تحت الأرض في اليمن، تزيدان من تعقيد المشهد الأمني الإيراني وغموض الآفاق.
ومن الصعب أن نكون متفائلين بشأن استمرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران حتى على المدى المتوسط. هذا يعني استمرار ظل كبير من انعدام الأمن والخوف من تجدد الاشتباك العسكري في المجالين الاجتماعي والاقتصادي داخل إيران.
وسيكون هروب رؤوس الأموال والمواهب من البلاد، ركود الإنتاج، تفاقم الأسعار، الفقر، البطالة، والفجوات الطبقية من النتائج الأكثر وضوحًا لهذه الظروف.
وفي مثل هذا السياق، يصبح مستقبل الصمود الاجتماعي وردود فعل غالبية الإيرانيين والغضب تجاه النظام أكثرَ غموضًا وإرباكًا.
وسيجعل ترابط الضغوط الخارجية المتمثلة بالعقوبات، مع الاستياء المتعمق في طبقات المجتمع المختلفة، آفاق التطورات السياسية في إيران أكثر قتامة، خاصة أن النظام لم يُظهر عزيمة على تغييرات هيكلية داخلية، أو تحول جذري في سياساته النووية والصاروخية والإقليمية والدولية.
الكرة في ملعب إيران
مع إضفاء الطابع الرسمي على "آلية الزناد"، ورفض مشروع القرار المقترح من روسيا والصين في مجلس الأمن، باتت الكرة الآن في ملعب إيران.. ليس فقط النظام السياسي، بل السلطة والمجتمع معًا.
وقد يزيد رد الفعل الإيراني، وخصوصًا تغيّر علاقات طهران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، من حساسية إسرائيل والولايات المتحدة تجاه الأنشطة النووية في إيران، وقد يدفع سريعًا نحو ذروة هجوم عسكري جديد.
وصرّح بعض المسؤولين الإيرانيين، في الأيام الماضية، بأنهم قد يقطعون التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حال عودة العقوبات، وإذا تحقق هذا التهديد، سيرتفع مستوى التوتر مع الغرب.
وقد يزيد استمرار وتوسع الأنشطة الصاروخية الإيرانية من تعقيد الوضع وتدهوره، ويشكّل ذريعة لهجوم إسرائيلي جديد.
وكذلك، استمرار هجمات الحوثيين على إسرائيل أو أعمال حزب الله اللبناني وغيره من القوى شبه العسكرية والوكيلة للحرس الثوري في المنطقة، يجعل آفاق وقف النار قاتمة ويُشوّش على الأمن الهش الحالي لدى شعب إيران.
وبعيدًا عن هذه الساحات الثلاث الاستراتيجية، تشكّل طريقة تعامل النظام مع المعارضين والنقاد، وخاصة تجمعات المواطنين الغاضبين والاحتجاجات المحتملة في الشوارع، عاملاً مهمًا آخر في مسار التحوّلات القادمة.
ومن هذا المنظور، حجم الاحتجاجات المحتملة، ونوعية وكمية عصيان المدني لدى المعارضين والمطالبين بالتغيير (الذي ينبع من دوافع متعددة)، سيكون له أثر فريد وموقع استراتيجي في واقع البلاد.
وبعيدًا عن ذلك، هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها، تتعلق بالدور الخاص لكيفية المواجهة بين إسرائيل وإيران. كيف ومتى ستتصرف حكومة نتنياهو في سبيل استهداف مسؤولين حكوميين أو منشآت نووية وصاروخية وعسكرية لإيران أو شن هجوم جديد عليها، وهو الأمر الذي أصبح عنصرًا خاصًا وغير مسبوق.
والواقع أن إيران تقف اليوم عند مفترق تاريخي، مفترق قد يؤدي، إن لم يُفضِ إلى انتقال نحو الديمقراطية، إلى صحراء حارقة أو إلى هاوية مرعبة.
