منذ تأسيسه، لم يكن السجن في النظام الإيراني مجرد مكان لتنفيذ الأحكام القضائية، بل استخدم أيضاً كأداة للسيطرة الاجتماعية وإسكات الأصوات المعارضة.
يُحتجز المعارضون والنقاد السياسيون، والصحفيون، والناشطون النقابيون والدينيون، وحتى المواطنون الذين شاركوا فقط في احتجاجات الشوارع أو أدينوا بجرائم أخرى، في سجون تتجاوز فيها ظروف الاحتجاز مجرد الحرمان من الحرية.
في هذه السجون، لا تُعطي صحة السجناء أي أولوية، بل يتم تجاهلها عمداً.
يمكن أن يشمل الحرمان الطبي تأخير النقل إلى المستشفى، ومصادرة الأدوية المرسلة من قبل العائلة، أو تقليص الوصول إلى الأطباء المتخصصين. في مثل هذه الظروف، يصبح السجناء المرضى عرضة لـ"الموت التدريجي"، الذي يوصف في الأدبيات الحقوقية بمصطلح "الإعدام الصامت".
حرمان السجناء المرضى من العلاج المناسب ليس مجرد إهمال أو سوء إدارة، بل يعتبره خبراء حقوق الإنسان في الأمم المتحدة "شكلاً من أشكال التعذيب".
في بعض الحالات، يُطلب من السجناء الحصول على إذن للعلاج من خلال تقديم تعهد أو حتى الاعتراف في التلفزيون. وترسل العائلات الأدوية، لكن غالباً لا تصل هذه الأدوية أو تصل بتأخير طويل، ما يضع السجين في مواجهة الموت التدريجي.
يضعف السجين يوماً بعد يوم، ويتضاءل أمله في النجاة. في كثير من الحالات، عندما يُسمح أخيراً بالنقل إلى المستشفى، يكون الوقت قد فات ولا يجدي العلاج نفعاً.
صرّحت عائلات الضحايا مراراً، لكن غالباً ما واجهت تهديدات وضغوطاً أمنية.
وأصدرت منظمات دولية مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش بيانات متكررة، لكن نظام طهران لم يحاسب أي مسؤول قضائي أو إداري على هذه الوفيات.
حتى في حالات مثل ستار بهشتي أو بهنام محجوبی التي حظيت بتغطية عالمية واسعة، أغلقت الملفات أخيراً وتم تبرئة المسؤولين.
وتمثل وفاة سمية رشيدي في سجن قرتشك نموذجاً واضحاً. فقد عانت فترة طويلة من المرض، لكن إدارة السجن امتنعت عن نقلها إلى المستشفى في الوقت المناسب.
تم نقلها إلى المستشفى فقط عندما أصبح وضعها حرجاً ودخلت في غيبوبة، إلا أن هذا النقل المتأخر لم يعد ينفع، وتم الإعلان رسمياً عن وفاتها في 25 سبتمبر (أيلول) 2025.
وأكد ناشطو حقوق الإنسان أن وفاة رشيدي لم تكن "حادثاً" عابراً، بل مثالاً صارخاً على سياسة الحرمان من العلاج، وأنها كانت ضحية "القتل التدريجي المتعمد". وسرعان ما أصبحت سمية رمزاً آخر للظلم الهيكلي في سجون إيران.
الأزمة في جميع سجون إيران
يشير تقرير لـ"إيران إنترنشنال" استناداً إلى موقع "ديده بان إيران" إلى أن السجناء السياسيين ليسوا وحدهم من يُعدم صامتاً بهذه الطريقة.
خلال العام الماضي، فقد نحو 30 سجينا حياتهم في سجن طهران الكبير فقط بسبب غياب الأطباء والمرافق الطبية.
هذه الإحصاءات صادمة بحد ذاتها، لكن عند دراسة التفاصيل، تتضح صورة كاملة عن الأزمة.
تعد الوحدة الخامسة في سجن طهران الكبير خاصة في حالة حرجة. فالازدحام، ونقص المساحات، وغياب خدمات الرعاية الاجتماعية تجعل العديد من السجناء يعيشون في ظروف غير إنسانية.
بعضهم لا يملك حتى سريراً للنوم ويضطر للنوم على الأرض أو في الممرات.
تفتقر الإدارة الطبية للسجن إلى المعدات المتخصصة والأطباء الدائمين، وأي نقل إلى مستشفى خارج السجن يتطلب تصاريح أمنية غالباً ما لا تصدر أو تتأخر طويلاً.
في الفترة القصيرة بين 12 و25 سبتمبر (أيلول)، فقد خمسة سجناء آخرين على الأقل حياتهم في سجون مختلفة، من بينها قرتشك ورامين، كجوئی كرج، ويزد.
وكان بين هؤلاء الضحايا أربع نساء، ما سلط الضوء مرة أخرى على أوضاع النساء السجينات.
لفهم عمق الأزمة، يكفي الاطلاع على ملفات محددة سجلت خلال العقدين الماضيين في وسائل الإعلام وتقارير حقوق الإنسان.
تظهر هذه الروايات أن الحرمان من العلاج ليس خطأ عارضاً، بل نمط متكرر في وفاة السجناء السياسيين.
وقد توفي ساسان نيك نفس، الناشط المدني، وبكتاش آبتين، الشاعر وصانع الأفلام، وجواد روحي، المواطن المحتج، خلال السنوات الماضية في سجون النظام الإيراني نتيجة غياب الخدمات الطبية، والضغوط النفسية، والتعذيب.
ومن النماذج الأخرى للإعدامات الصامتة في إيران:
-أكبر محمدي (2006)
أكبر محمدي، طالب عضو في الجمعية الإسلامية وأحد المعتقلين في أحداث حرم جامعة طهران 1999، توفي بعد عدة سنوات من السجن في أغسطس (آب) 2006 في سجن إيفين.
قالت عائلته إنه كان يعاني من أمراض متعددة ويحتاج إلى أدوية خاصة، لكن إدارة السجن لم تقدم له الرعاية اللازمة.
أدى إضرابه الطويل عن الطعام وامتناع إدارة السجن عن نقله إلى مستشفى مناسب في النهاية إلى وفاته.
كانت وفاة محمدي من أوائل الحالات التي لفتت الانتباه العام إلى قضية الحرمان من العلاج في السجون.
-أمير حسين حشمت ساران (2009)
أمير حسين حشمت ساران، الأمين العام للجبهة المتحدة للطلاب والشباب في إيران، اعتُقل بعد احتجاجات عام 2009، وأصيب بنزيف دماغي في سجن "رجائي شهر".
امتنع مسؤولو السجن عن نقله فوراً إلى المستشفى، ولم يُنقل إلا عندما أصبح وضعه حرجاً، ولكن هذا النقل لم يفلح.
اعتبرت منظمة "هيومن رايتس ووتش" وفاته نتيجة لإهمال متعمد من قبل السلطات تجاه صحة السجناء.
-هدي صابر (2011)
هدي صابر، صحفية وناشطة وطنية-دينية، أقدمت على إضراب عن الطعام احتجاجاً على وفاة هالة سحابي أثناء مراسم دفن مهدي بازرغان.
بعد آلام قلبية شديدة، نُقلت متأخرةً إلى المستشفى، وهناك توفيت.
أفاد الشهود أن حراس السجن وإدارة السجن في إيفين تجاهلوا علامات بداية الأزمة القلبية.
ووصفت وفاة صابر من قبل كثيرين بأنها "قتل بسبب التأخر في العلاج".
-ستار بهشتي (2012)
ستار بهشتي، مدون وعامل، اعتُقل في 2012، ونُشر خبر وفاته بعد أيام قليلة. أكد الطب الشرعي آثار التعذيب على جسده.
وقد اشتكى في التحقيقات من آلام شديدة، لكنه لم يتلق أي علاج.
اعتبرت منظمة العفو الدولية وفاة بهشتي مثالاً صارخاً على الإهمال الطبي والعنف المنظم، وطالبت بإجراء تحقيق مستقل.
-وحيد صيادي نصيري (2018)
وحيد صيادي نصيري، سجين سياسي شاب محكوم بسبب نشاطه الاحتجاجي، أصيب بمرض كبدي في سجن لنغرود قم وكان بحاجة إلى علاج عاجل.
ومع ذلك، أجلت إدارة السجن مراراً نقله إلى المستشفى، وتوفي في ديسمبر (كانون الأول) 2018 نتيجة لهذا الإهمال.
وقد لفتت وفاته انتباه الرأي العام على وسائل التواصل، وأعادت إلى الواجهة قضية "حق العلاج" في السجون.
-كاوس سيد أمامي (2017)
كاوس سيد أمامي، أستاذ جامعي وناشط بيئي، اعتُقل في 2017، وأُعلن عن وفاته في إيفين بعد أسبوعين فقط.
وزعم المسؤولون القضائيون أنه انتحر، لكن عائلته رفضت هذا الرواية.
وكان الضغط النفسي، العزلة في الزنزانة الانفرادية، وغياب الرعاية الطبية من العوامل الرئيسية التي أدت إلى وفاته.
-بهنام محجوبي (2021)
بهنام محجوبی، من الصوفيين الجناباديين، كان مصاباً بالصرع. أكد الأطباء أن استمرار سجنه خطر على حياته، لكن مسؤولي السجن لم يزودوه بأدويته الضرورية في الوقت المناسب.
وحذر مراراً في رسائله ومكالماته من أنه في خطر، وأخيراً في فبراير (شباط) 2021 دخل في غيبوبة وتوفي في مارس (آذار) من نفس العام في مستشفى لقمان.
اعتبرت منظمة العفو الدولية وفاته نتيجة للتعذيب والحرمان من العلاج.
-سمية رشيدي (2025)
سمية رشيدي، العاملة المسجونة في سجن قرتشك ورامين، تعرضت لنوبات تشنج بعد أشهر من الحرمان من العلاج وتجاهل وضعها الصحي الحرج.
نُقلت متأخراً إلى المستشفى، لكن الوقت كان قد فات، وتوفيت في 25 سبتمبر (أيلول) 2025.
وأصبحت وفاة رشيدي، خصوصاً بعد تقارير عن وفيات مشابهة في سجن طهران الكبير وسجون أخرى، رمزاً جديداً لـ"الإعدام الصامت".
استمرار دورة الموت
ينبغي البحث عن سبب استمرار هذا الوضع في الهيكل السياسي والقضائي لإيران.
في ظل هيمنة النظرة الأمنية على كل شيء، يُتخذ قرار العلاج للسجين ليس وفق الحاجة الطبية، بل وفق اعتبارات أمنية.
لا توجد أي جهة رقابية مستقلة على السجون. وتسود ثقافة الحصانة: لا يقلق أي موظف أو مسؤول من المحاكمة بسبب وفاة السجناء، وفي النهاية يصبح الحرمان من العلاج أداة للضغط والترهيب السياسي.
وفاة السجناء السياسيين ليست مجرد مأساة فردية، بل لها تبعات أوسع على المجتمع.
تخلق الحكومة حالة خوف عام، وتظهر أن بإمكانها الحكم على أي شخص بالموت التدريجي حتى وإن لم تقتله مباشرة.
هذه الوفيات نتاج هيكلية حيث أصبح الحرمان من العلاج أداة للقمع، لكن التجربة أظهرت أن موت هؤلاء السجناء لم يسكت الأصوات، بل عزز رموز المقاومة.