ومن نقابة الأطباء التي شهدت استبعادًا غير مسبوق لمرشحيها، إلى إصدار أحكام قاسية ضد 16 معلمًا في كردستان، وصولاً إلى ملاحقات أمنية بحق ناشطين نقابيين في كرمان، تتكشف ملامح سياسة ممنهجة تهدف إلى خنق أي تنظيم مستقل.
وهذه الإجراءات، التي وصفتها الناشطة الإيرانية الحائزة على جائزة "نوبل للسلام"، نرجس محمدي، بأنها امتداد لمسار القمع المستمر منذ ثورة 1979، تكشف عن قلق النظام الإيراني العميق من أن تتحول المطالب النقابية والحقوقية إلى شرارة انتفاضة جديدة، تعيد إلى الأذهان شعارات "المرأة، الحياة، الحرية".
وقد أشارت تقارير منشورة في وسائل الإعلام الإيرانية، يوم الجمعة 5 سبتمبر (أيلول)، إلى رفض واسع للعديد من المرشحين في انتخابات نقابة الأطباء، الأمر الذي أثار موجة احتجاجات ضد "الرقابة الاستصوابية"، التي تفرضها السلطات على هذه الانتخابات.
وذكرت قناة "المجتمع الطبي الإيراني" أن رفض الأهلية جاء بشكل غير مسبوق؛ حيث شملت قوائم المستبعدين شخصيات حكومية، ورؤساء جامعات، ومستشارين في وزارة الصحة.
ووصف عضو هيئة تحرير قناة "إيران إنترناشيونال"، مرتضى كاظميان، هذا الرفض الواسع بأنه يعكس غياب انتخابات حرّة، وسليمة وعادلة في إيران، ويشكّل ضربة للنقابات المهنية.
وبحسب التقارير، فقد وُضع بعض المرشحين تحت ضغوط لتوقيع تعهدات خطية بعدم تكرار أي "أخطاء مهنية أو اجتماعية" سابقة.
كما لفت أحد الأطباء إلى دور ممثلي النيابة العامة ووزارة الداخلية إلى جانب مندوبين عن وزير الصحة ولجنة البرلمان لشؤون الصحة والرفاه في عملية البتّ بالترشيحات، مشددًا على أنّ ما يجري يستهدف خصوصًا الشخصيات المستقلة أو الخارجة عن نمط فكري معيّن.
صدور أحكام قاسية بحق 16 معلمًا في كردستان إيران
لم يقتصر الأمر على نقابة الأطباء؛ فقد أفادت النقابات التعليمية في إيران بصدور أحكام قاسية بحق 14 معلمًا بمحافظة كردستان، في أغسطس (آب) الماضي، وذلك في سياق استمرار الملاحقات الأمنية لنشطاء النقابيين من المعلّمين. وشملت هذه الأحكام الطرد الدائم، والتقاعد الإجباري، والفصل المؤقت من الخدمة، والنفي.
واعتبرت نقابة معلّمي كردستان أن هذه الأحكام تمثّل تجاهلًا صارخًا للمطالب المشروعة للمعلّمين والطلبة والمحتجين الإيرانيين، مؤكدة أن قمع المعلّمين والنقابات المستقلة لن يؤدي إلا إلى تعميق أزمة التعليم في إيران.
كما أعلنت النقابة أنها ستنشر قريبًا أسماء ومسؤوليات الأفراد الذين شاركوا في تلفيق الملفات وإصدار هذه الأحكام.
وأضافت النقابة أن هذه الأحكام صدرت في وقت كان فيه سيد فؤاد حسيني، المدير العام للتربية والتعليم في المحافظة، قد صرّح مؤخرًا في مقابلة صحفية بأن "لا معلّم واحدًا قد تم طرده في هذه المحافظة".
وكانت صحيفة "شرق" الإيرانية قد ذكرت في 18 أغسطس (آب) الماضي أن ملفات المعلّمين المحتجين لا تزال مفتوحة في المحاكم ووزارة التربية والتعليم.
محمدي تدعو الأمم المتحدة للتحرك
وبدورها وجّهت الناشطة الإيرانية الحائزة على جائزة نوبل للسلام، نرجس محمدي، رسالة إلى المقررة الخاصة للأمم المتحدة في إيران، ماي ساتو، انتقدت فيها استمرار قمع المعلمين منذ ثورة 1979، محذّرة من أن هذا القمع يتجسّد اليوم في قرارات الفصل والتقاعد الإجباري والنفي، طالت 16 معلمًا في كردستان.
وفي هذه الرسالة، التي نُشرت يوم الجمعة 5 سبتمبر (أيلول) على حسابها في "إنستغرام"، دعت محمدي "اليونسكو" ومنظمة العمل الدولية إلى الضغط من أجل إلغاء "الأحكام الجائرة" ضد المعلمين، وخصوصًا في إقليم كردستان إيران.
وكتبت محمدي أن قمع الأنشطة النقابية للمعلمين لم يتوقف في أي فترة سياسية منذ تأسيس النظام الإيراني، بل استمر في مختلف الحكومات، مشيرةً إلى أن ذروة هذا القمع كانت في عهد الرئيس السابق، إبراهيم رئيسي، واشتدت بعد اندلاع حركة "المرأة، الحياة، الحرية".
وأضافت محمدي، في رسالتها إلى المقرّرة الأممية، أن مئات النشطاء النقابيين من المعلمين قد اعتُقلوا، وأن أكثر من 300 معلم وناشط نقابي وطلاب كليات التربية واجهوا أحكامًا إدارية، من بينها الفصل والطرد.
وأضافت محمدي أن "صدور هذه الأحكام على أعتاب الذكرى السنوية لانتفاضة جینا مهسا أميني، يوضح مدى قلق نظام خامنئي من احتمال اندلاع انتفاضة جديدة للشعب الإيراني لتحقيق مطالبه الديمقراطية والعدالة".
دعوة إلى تحرك دولي
أعربت محمدي عن احتجاجها الشديد على استمرار قمع المعلمين في إيران، ودعت جميع الهيئات الحقوقية والمنظمات الدولية إلى إعلان تضامنها مع المعلمين، وإدانة الإجراءات الأمنية والقضائية بحقهم، واتخاذ خطوات عملية لوقف هذه السياسة.
وطالبت الحائزة على جائزة نوبل بإلغاء فوري للأحكام الصادرة بحق المعلمين، خصوصًا الأحكام الأخيرة ضد 16 معلمًا في كردستان، والاعتراف بحقهم في تشكيل نقابات مستقلة وتنظيم تجمعات سلمية.
والمعلمون الستة عشر هم: برويز احسني، سمية اخترشمار، لقمان الله مرادي، جهانكير بهمني، صلاح حاجي ميرزايي، ليلا زارعي، ليلا سليمي، أميد شاه محمدي، سليمان عبدي، هيوَا قريشي، شهرام كريمي، مجيد كريمي، نسرين كريمي، كاوه محمد زاده، غياث نعمتي، وفیصل نوري، وقد واجهوا أحكامًا بالفصل، والطرد، والتعليق، والتقاعد الإجباري والنفي.
وفي 28 أغسطس (آب) الماضي، وعلى خلفية صدور هذه الأحكام التأديبية والأمنية بحق المعلمين في إقليم كردستان، تجمع المئات من المواطنين والناشطين المدنيين في مسار صعود جبل آبيدر بمدينة سنندج، ونظموا مسيرة احتجاجية مطالبين بإلغائها.
وخلال الأيام الأخيرة، وبعد صدور هذه الأحكام بحق المعلمين، أصدرت عدة نقابات وجمعيات ثقافية، إلى جانب مجموعات من المتقاعدين وجمع من متسلقي الجبال في عدة محافظات، بيانات ومواقف رمزية دانت هذه الأحكام، واعتبرتها "مؤشرًا على القمع المنظم".
وتواصل المؤسسات القضائية والأمنية في إيران قمع المعلمين ونقاباتهم، حيث أصدرت محكمة الثورة في كرمان أحكامًا بالسجن على 8 معلمين بالمحافظة. كما أُعيد ملف أحد المعلمين إلى النيابة لإجراء تحقيقات إضافية.
وصدرت هذه الأحكام، التي أُبلغت مؤخرًا للمعلمين ومحاميهم، في 3 أغسطس الماضي من قبل الدائرة الأولى لمحكمة الثورة في كرمان برئاسة القاضي هادي آقائي بور.
استندت المحكمة في إصدار هذه الأحكام إلى تقرير استخبارات الحرس الثوري، مستشهدة بأنشطتهم النقابية، والتجمعات الاحتجاجية، وانتقادات هؤلاء المعلمين على وسائل التواصل الاجتماعي.
وقد تمت إجراءات المحاكمة خلال جلسات قصيرة دون مراعاة الإجراءات القانونية.
ووفقًا للمعلومات التي وصلت إلى "إيران إنترناشيونال"، كان هؤلاء المعلمون ينشطون بشكل رئيس في مجالات متعلقة بمتابعة المطالب المعيشية، ونظام تصنيف المعلمين، والاحتجاج على أوضاع التعليم العام في البلاد.
ووفقًا للأحكام الصادرة، فقد أُدين مجيد نادري، مدرس متقاعد، بتهم "تأسيس وإدارة وعضوية جماعة معادية، والدعاية ضد النظام، وإهانة المرشد" بالسجن التعزيري لمدة سنة و8 أشهر، منها 4 أشهر قابلة للتنفيذ.
وأُدين حسين رشيدي زرندي، مدرس متقاعد، بتهم مماثلة بالإضافة إلى "إهانة روح الله خميني" بالسجن التعزيري لمدة سنة و8 أشهر، منها 4أشهر قابلة للتنفيذ.
كما أُدين محمد رضا بهزادبور، مدرس في وزارة التربية والتعليم، بتهم "تأسيس وإدارة جماعة معادية والدعاية ضد النظام" بالسجن التعزيري لمدة سنة و4 أشهر، منها 4 أشهر قابلة للتنفيذ.
وتمت إدانة كل من فاطمة يزداني، وميترا نيك بور، وزهرا عزيزي، وليلا أفشار، وشهناز رضائي شريف آبادي، بتهم "عضوية جماعة معادية والدعاية ضد النظام"، وحُكم على كل منهن بالسجن التعزيري لمدة 10 أشهر، منها 4 أشهر قابلة للتنفيذ.
فيما يخضع المعلم محمد مستعلي زاده يخضع للملاحقة القضائية بتهمة "عضوية نقابة غير مرخصة"، وأُعيد ملفه إلى النيابة لمواصلة التحقيقات.
وأدان المجلس التنسيقي لنقابات المعلمين في إيران الأحكام الصادرة بحق هؤلاء المعلمين في كرمان، وأعلن أن هذه القضية شُكلت بناءً على شكوى من استخبارات الحرس الثوري في محافظة كرمان، وعلى خلفية تنظيم تجمعات نقابية سلمية.
وأكدت هذه الهيئة النقابية دفاعها عن الحقوق القانونية للمعلمين، محذرة من أن إصدار مثل هذه الأحكام غير العادلة لن يمنع المطالبات النقابية والمدنية للمعلمين ضمن إطار الأنشطة السلمية.
مما سبق يتّضح أن هذه الإجراءات جزء من استراتيجية طويلة الأمد يتبعها النظام الإيراني لفرض السيطرة على المؤسسات التعليمية والهيئات النقابية تضمنت قمع المعلمين والطلاب والنشطاء السياسيين والحقوقيين، وفرض قيود مشددة على العمل النقابي والاحتجاجات، في مسعى لإخماد أي صوت معارض داخل البلاد.