لماذا يرى النظام الإيراني أن التغيير أخطر من الحرب؟

رغم الضربات التي تلقّاها حكّام إيران في الحرب مع إسرائيل، ما زالوا يتحدثون عن المقاومة والاستعداد للمواجهة. ربما لأنهم يرون أن كلفة التفاوض والتغيير تفوق كلفة المواجهة العسكرية.
رغم الضربات التي تلقّاها حكّام إيران في الحرب مع إسرائيل، ما زالوا يتحدثون عن المقاومة والاستعداد للمواجهة. ربما لأنهم يرون أن كلفة التفاوض والتغيير تفوق كلفة المواجهة العسكرية.
يقف النظام الإيراني على أعتاب تفعيل "آلية الزناد"، وفي الوقت نفسه يسعى عبر المشاركة في قمة شنغهاي إلى عرض صورة عن "دبلوماسية نشطة" وتقديم نفسه كجزء من معسكر الشرق في مواجهة تهديدات الغرب.
لكن في الداخل، تحذّر القوى السياسية والاقتصادية من أن استمرار هذا المسار من دون إصلاحات جوهرية سيزيد الأوضاع سوءًا.
وفي قلب هذين الرسالتين المتناقضتين، شدّد المرشد الإيراني في خطابه بتاريخ 24 أغسطس (آب) على أن النظام السياسي سيواصل السير في نهجه السابق.
وعلى الرغم من الخسائر البشرية والدمار الواسع في الحرب التي استمرت 12 يومًا، فإن النظام أعاد صياغة الرواية لتصوير الحرب على أنها "انتصار" وإظهارها كأمر يمكن التحكم به. أما التغيير الداخلي، وبسبب ما قد يطلقه من سلسلة مطالب غير متوقعة، فيُنظر إليه على أنه تهديد أشد خطورة بكثير.
لماذا تبدو الحرب قابلة للإدارة؟
أتاحت الحرب للنظام الإيراني فرصة إعادة تقديم نفسه كفاعل "صامد في مواجهة العدو".
وارتكزت هذه الرواية على ركيزتين أساسيتين: أولًا، تضخيم الضربات الفعلية التي وُجّهت إلى إسرائيل والتي أضعفت قدراتها الدفاعية والمعنوية.
ثانيًا، التهوين من الخسائر التي تكبّدتها إيران، من مقتل قادة كبار في الحرس الثوري إلى كشف عمق اختراق الموساد وتضرر مواقع حساسة. وقد صُوِّرت هذه الخسائر لا كعلامة ضعف، بل كـ"تضحيات" و"صمود".
إن هذه القدرة على إعادة تعريف الواقع هي أحد أسباب اعتبار الحرب قابلة للإدارة. ولهذا يعتقد بعض الساسة أنه حتى لو كان ميزان القوى في ساحة القتال ليس لصالحهم، فإنهم قادرون عبر الرواية أن يحوّلوا النتيجة إلى "انتصار".
كما أن الدور المؤثر والمؤسساتي للحرس الثوري والبسيج في المشهد السياسي يشكل سببًا آخر لتفضيل الحرب. فهاتان المؤسستان لا تكتفيان بإدارة الشأنين العسكري والأمني، بل لهما حضور واسع في الاقتصاد والسياسة.
واستمرار نفوذهما مرتبط بوجود حالة المواجهة؛ إذ إن الأزمات الخارجية بالنسبة لهما ليست تهديدًا فحسب، بل فرصة أيضًا للحصول على مزيد من الميزانيات والصلاحيات والمكانة داخل هيكل السلطة.
وبما أن كثيرًا من سياسات النظام لا تسير من دون غطائهما أو تعاونهما، فقد بات موقعهما أكثر مركزية. لذلك يسعيان إلى إبقاء فكرة الحرب حيّة في الفضاء العام؛ ليس بالضرورة لخوض مواجهة جديدة، بل لأن استمرار أجواء التوتر يبقيهما في مركز القرار.
أما السبب الثالث فيكمن في وظيفة البيروقراطية؛ فالهجوم الخارجي يجعل عملية اتخاذ القرار أسهل على النظام. ففي ظل الحرب أو حتى تهديدها، تُدفع الخلافات الداخلية إلى الهامش بالقوة أو القمع، وتُوجَّه الأنظار إلى مركز قيادة واحد.
في مثل هذه الظروف، تعلو يد القيادة والمؤسسات الأمنية، وتتراجع مكانة بقية مراكز القوة، وتُؤجَّل القرارات الحساسة إلى وقت لاحق. الحرب تُنشئ فضاءً يصبح فيه "الطاعة للمركز" قاعدة أساسية.
لماذا يُعتبر التغيير أخطر من الحرب؟
على عكس أزمات مثل الحرب التي تُعد من منظور النظام الإيراني تجربة "قابلة للسيطرة"، فإن التغيير الداخلي يفتقر إلى قواعد واضحة وقابلة للتنبؤ.
فالسلطة تدرك جيدًا أن أي إصلاح حقيقي قد يطلق سلسلة من المطالب المجتمعية الجديدة القادرة على تقويض التوازن القائم وإخراج الأمور من السيطرة، خصوصًا في ظل التهديد المتزامن بالحرب. ولأن هذا النظام يقوم على تركيز السلطة وضبط المجتمع، فإن هذه الدينامية تُعتبر أخطر بكثير من حرب يمكن إدارتها جزئيًا.
كما أن الذاكرة التاريخية لقيادات النظام مليئة بالتحذيرات من تبعات الإصلاح. فسقوط الاتحاد السوفيتي يُفسَّر لديهم دائمًا كنتيجة لفتح باب التغيير السياسي.
أما التجربة الداخلية، فكانت باهظة الكلفة: إصلاحات التسعينيات أطلقت سريعًا مطالب رآها النظام غير مقبولة، فانتهت إلى قمع واسع.
هذه التجارب جعلت أي حديث عن التغيير، حتى لو جاء في صورة رسائل من اقتصاديين، يُنظر إليه كتهديد وجودي للنظام.
إضافة إلى ذلك، فإن تحالفات السلطة داخل إيران تشكّل بدورها عقبة جدية أمام التغيير.
فمؤسسات مثل الحرس الثوري لا تخسر من الإصلاح الديمقراطي بسبب دورها الأمني فقط، بل أيضًا بسبب مصالحها الاقتصادية الضخمة. فالتغيير يعني إعادة توزيع للسلطة والموارد.
من وجهة نظر النظام، الحرب ظاهرة "قابلة للإدارة"؛ لأنها تملك عدوًا محددًا، وتُشغِّل الأجهزة الأمنية والدعائية بالكامل، وتمنح مؤسسات القوة مكاسب إضافية.
في المقابل، التغيير يفتقر إلى عدو واضح، وإلى أدوات سيطرة مضمونة، ولا يملك نقطة توقف يمكن الاطمئنان إليها.
فالتغيير، بمجرد انطلاقه، قادر على كشف الانقسامات الكامنة وتفكيك تماسك البنية من الداخل.