بعد فيلم "المخطوطات لا تحترق" لمحمد رسول آف – الذي تناول هذه الاغتيالات بشكل مباشر وجريء – يأتي فيلم "أعماق الليل" للمخرج فرهاد ولكيجي كعمل آخر يتمحور حول هذه القضية.
غير أنه لا يتّخذ منحى سياسيًا صرفًا، بل يحاول الاقتراب من الموضوع من زاوية أخرى: تسجيل الحالة النفسية لكاتب في أيامه الأخيرة قبل اغتياله.
يروي الفيلم قصة كاتب ومترجم يُدعى فرهاد بوينده، وهو اسم يجمع بوضوح بين اسمي فرهاد غبرايي ومحمد جعفر بوينده، وهما كاتبان ومترجمان اغتالتهما عناصر تابعة لوزارة الاستخبارات الإيرانية في سلسلة اغتيالات طالت كتّابًا وفنانين في تسعينيات القرن الماضي.
وقد أهدى المخرج فيلمه إلى فرهاد غبرايي في العنوان الافتتاحي، وقال في مقابلة إنه كان شاهدًا على جزء من حياة غبرايي، ومنذ مغادرته إيران ظلّ يفكر في رواية هذه القصة.
في الفيلم، يعود فرهاد إلى قريته الأصلية – التي يُفترض أنها تقع في شمال إيران – كي "يتركه الآخرون وشأنه".
بيت العائلة الواقع قرب النهر آيلٌ إلى السقوط، وهو رمز واضح للوضع الكارثي والمهتز لإيران.
يحاول فرهاد بكل ما أوتي من جهد أن يُبقي أعمدة هذا البيت قائمة، لكن يبدو أن قدرته على ذلك تتضاءل، فيما تتهاوى أسسه يومًا بعد يوم.
علاقة هذا الرجل – الذي يؤدي دوره علي مصفا – بزوجته، وخصوصًا بابنته الصغيرة، تشكل محورًا مهمًا في مسار الفيلم.
يعيش الرجل في خوف دائم، ويحمل ماضيا مريرًا: ذكريات سجون الثمانينات والإعدامات. وفي هذا المكان الغابي يعثر أيضًا على هيكل عظمي لرجل أُطلق عليه الرصاص في رأسه. هكذا يرتبط الماضي بالحاضر ووضعه الراهن.
الاضطراب النفسي العميق للشخصية الرئيسية يفتح الباب أمام مشاهد سوريالية، غير أن المخرج لا يستغل هذه الفرصة بما يكفي، ويكتفي بعدد قليل من المشاهد القصيرة، وبعض التلاعبات الصوتية والبصرية.
بالرغم من ذلك، يظهر أحد أجمل مشاهد الفيلم – تساقط أسماك ميتة من السماء – في هذا القسم، مشهد يحمل بُعدًا رمزيًا وجماليًا، لكنه لا يتكرّر أو يُستثمر في بقية الفيلم. في حين كان من الممكن أن يؤدي التوغل في عالم الهواجس إلى جعل النصف الثاني من الفيلم أكثر تشويقًا.
يوسّع ولكيجي الحكاية عرضيًا، ويبني سردًا لا يعتمد على الخط التقليدي للقصة، ضمن فضاء محدود وشخصيات قليلة.
هذا الأسلوب يمنح الفيلم طابعًا مختلفًا، لكنه يصعّب تواصل المتفرج مع الحدث مع تقدّم الفيلم.
المخرج، الذي عمل لسنوات في تصميم الديكور في السينما الإيرانية، يركّز هنا كلّ طاقته على تصميم المشاهد: لقطات جميلة، وديكورات جذابة، وفضاء بصري لافت. لكنه في المقابل، لا ينجح بالقدر ذاته في تطوير القصة أو توجيه الممثلين بعمق.
أفضل وأحبّ الشخصيات في الفيلم هي الطفلة الصغيرة، التي صُمّمت جيدًا وأدّت دورها بشكل مدهش. بينما تبقى شخصية فرهاد – بكل تعقيداتها وماضيها الحالك – مغلقة وغامضة، كما أن النصوص التي تُلقى بصوته كمونولوج فوق الصور لا تساهم كثيرًا في تعميق هذه الشخصية.
لكن الفيلم ينجح عبر تفاصيل معينة – كحواراته الهاتفية – في بناء عالم غير مرئي لكنه متخيّل؛ أحد أصدقاء فرهاد يختفي، لكنه يرفض تصديق الأمر، ويواصل الاتصال به باستمرار. من جهة أخرى، يلمّح صديقه رئيس التحرير وناشره، بعبارات مواربة، إلى أوضاع الاغتيالات، ويعرض عليه قائمة رقابية بالتعديلات المطلوبة على كتابه، تعكس بوضوح مدى تفاهة ومأساوية الرقابة في إيران التسعينيات.
كما يتحوّل الفيلم إلى عرض بصري للطبيعة وامتزاجها بالفضاء القروي البسيط، حيث تتكوّن المشاهد بقوة وحضور الطبيعة الحية، التي تتحمل العبء الرئيسي للفيلم.
ومن أبرز مشكلات "سينما المنفى"، إعادة بناء الداخل الإيراني في الخارج، والتي غالبًا ما تكون غير مقنعة وتفقد المتفرج الإيراني الإحساس بالمصداقية منذ اللقطات الأولى.
إلا أن هذا الفيلم ينجح، لحسن الحظ، في خلق فضاء قابل للتصديق لمنطقة شمال إيران، وحتى في المشاهد الداخلية، حيث تظهر ممثلة دون حجاب، وتُعرض علاقات عاطفية بين الزوجين – مثل العناق والنوم جنبًا إلى جنب – وهي مشاهد محظورة في السينما الرسمية داخل إيران، لكنها تسهم هنا في خلق واقع معيشٍ يُصدَّق.