وهذا المشروع، خلافًا لما يوحي به عنوانه من تحمل للمسؤولية تجاه المعلومات المضللة، هو في جوهره محاولة بنيوية لتقييد الخطاب العام وتجريم السرديات المستقلة. من بنيته اللغوية إلى الظروف السياسية التي جاء في سياقها، كل شيء يشير إلى أننا أمام أحد أوسع وأكثر مشاريع تقنين الرقابة غموضًا في تاريخ إيران.
وفي مادته الأولى، يعرّف المشروع مفاهيم، مثل "المحرّف"، و"الناقص"، و"المضلّل للرأي العام"، و"المثير للبلبلة في ذهن المتلقي"، كمقاييس لتحديد المحتوى الكاذب. وهذه المصطلحات لا تفتقر فقط إلى الوضوح القانوني اللازم، بل تفتح المجال واسعًا أمام التفسير من قِبل الهيئات القضائية والأمنية لمعاقبة أي محتوى يتعارض مع الرواية الرسمية، وفقًا للهوى السياسي. هذا النوع من التشريع لا يخضع لمبادئ المحاكمة العادلة، بل يُستخدم كأداة استباقية للقمع.
وفي الأنظمة الجمهورية، تُعتبر حرية التعبير شرطًا أساسيًا للحوار والمساءلة وإمكانية الإصلاح، لا امتيازًا قابلاً للسحب. أما في إيران، فقد كانت هذه الحرية دومًا في صراع جوهري مع بنية السلطة. منذ السنوات الأولى بعد الثورة، من استهداف الكُتّاب المستقلين، إلى حظر الصحف، وتصفيات المعارضين، وصولاً إلى اغتيالات المثقفين في التسعينيات، لم تكن الرقابة ردّ فعل، بل كانت جزءًا من السياسة الرسمية.
وقد شكّلت تجربة الاغتيالات المتسلسلة نقطة تحول بارزة؛ حيث لم يعد النظام يخشى النقد فقط، بل صار يخشى مجرّد الكتابة المستقلة. وفي السنوات التالية، تعزّز هذا الخوف بأدوات جديدة: حجب الإنترنت، الرقابة المستمرة على الفضاء الإلكتروني، السيطرة المنظمة على الصحافة، وفرض منظومة تراخيص على إنتاج الإعلام.
وهذا المشروع الجديد ليس استثناءً، بل جاء تتويجًا لهذه السلسلة؛ فهذه هي المرة الأولى التي يُسعى فيها إلى إضفاء الطابع المؤسسي على آليات غامضة لتجريم السرد، عبر قانون عام يسري على نطاق وطني شامل.
وبموجب هذا المشروع، قد يتعرض أي فرد يُدلي برأي في الفضاء العام، سواء كان إلكترونيًا أو إعلاميًا، لعقوبات قاسية إذا اعتبرته السلطة "محرفًا". وبذلك لا تعود المسؤولية مقتصرة على إنتاج المحتوى، بل تمتد إلى المنصات التي تنشره أيضًا.
التحكم في السرد: ضرورة بقاء لنظام مأزوم
إن السيطرة على السرد لم تعد مجرد هاجس أيديولوجي، بل ضرورة وجودية لنظام غارق في الأزمة. وكما أن السيطرة على الأرض حيوية في الحرب العسكرية، فإن السيطرة على الخطاب تُعادِل السيطرة على الميدان في الظروف الراهنة.
ويدرك النظام الإيراني تمامًا أن الهزيمة في معركة السرديات تمهّد لانهيار الهيكل. ولهذا السبب، لم تعد الروايات المعارضة فقط مصدر تهديد، بل حتى الروايات الشخصية أو غير المكتملة.
القانون الذي يجعل كل شيء قابلاً للملاحقة، ولا يُعرِّف شيئًا بوضوح، هو في الواقع أداة هندسة للخوف. خوفٌ لا يقتصر على الرقابة الخارجية، بل يتحوّل إلى رقابة ذاتية داخلية لدى النشطاء، والفنانين، والصحافيين، بل وحتى المواطنين العاديين. في مثل هذا المناخ، لا أحد يسأل، لا أحد يكتب، ولا أحد يُفكر؛ لأن كلفة التفكير غير معلومة ومدمّرة.
ومن منظور القانون العام، ينتهك هذا المشروع مبدأ "لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، وهو مبدأ منصوص عليه في الدستور الإيراني (المادتان 36 و37) ومعترف به في المواثيق الدولية مثل المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية كمعيار لحرية التعبير.
فالمفاهيم الواردة في المشروع تفتقر إلى العناصر الأربعة الضرورية للمشروعية القانونية: الضرورة، التناسب، شرعية الهدف، ووجود مرجع مستقل للفصل. وعندما يُستخدم "العرف" أو "إرباك ذهن المتلقي" كأساس للتجريم، فإن المحاكمة تفقد معناها، والدفاع يصبح عبثيًا.
ويجب النظر إلى هذا المشروع كعلامة على انتقال النظام الإيراني من طور السلطوية الكلاسيكية إلى مرحلة العُزلة السياسية التامة. نظامٌ بات يشعر بالتهديد حتى من مجرّد التعبير، لا يُمكن اعتباره قويًا، بل مأزومًا في بنيته.
الرقابة لا تمحو الحقيقة
في النهاية، قد تؤخر الرقابة من انتشار الحقيقة، لكنها لا تستطيع محوها.
لقد أظهرت التجربة الحديثة في إيران أن الحقيقة- إذا وُئدت بالصمت أو النفي أو المنفى- ستعود وتظهر. المجتمع الذي يُجبر على الصمت قد يبدو حيًا، لكنه عمليًا يسير نحو الجمود والانهيار.
ومثل هذا المجتمع لا يمكنه أن يتعلّم من أخطائه، ولا أن يُعيد بناء نفسه، ولا أن يواجه الأزمات القادمة.
ومشروع قمع السرديات لا يهدف إلى إرساء النظام، بل إلى بثّ الخوف. والنظام الذي يقوم على الخوف، في النهاية، لن يكون مستقرًا، ولا قابلاً للإصلاح.