قطع الإنترنت.. القتل الصامت لشعب إيران في حرب النظام مع إسرائيل

في وقتٍ تجد فيه إيران نفسها مجددًا وسط توترات عسكرية وأزمات أمنية متصاعدة، يعاني شعبها أكثر من أي وقت مضى عواقب لم يكن لهم دور في صنعها، ولا يملكون لأنفسهم منها نفعًا.
كما أن الحرب الدائرة بين النظام الإيراني وإسرائيل، تتجاوز مجرد مواجهة عسكرية أو سياسية، لتكشف واقعًا أقدم وأعمق: الهوة المتسعة باستمرار بين نظام طهران والشعب.
وفي حين تتحدث وسائل الإعلام الرسمية عن "الانتصار والمقاومة" وتتنقل الصواريخ في السماء، يغرق ملايين الإيرانيين في صمت رقمي مطبق. قطع الإنترنت لم يعد مجرد إجراء أمني، بل أصبح أداة لحرمان المجتمع من الحق في المعرفة، وطلب المساعدة، وسرد الحقيقة. قرار يقطع أوصال المواطنين مع العالم ويجردهم من القدرة على الدفاع عن أنفسهم.
قطع الإنترنت.. قتل صامت
في عالم اليوم، لم يعد الإنترنت مجرد وسيلة تواصل، بل أصبح بنية حيوية للبقاء، لنقل المعلومات، والإغاثة، ولتقديم الشهادات على ما يحدث. في أوقات الأزمات، من الحروب إلى الزلازل، الإنترنت هو ما يربط الفرد بالمجتمع، والمجتمع بالعالم.
ولا يُعد قطع الإنترنت في هذه اللحظات تقييدًا فحسب، بل هو بمثابة قتل وظيفي للمجتمع؛ قتل في صمت، بلا صوت، بلا رصاصة، ولكن بأثر مماثل: حرمان الإنسان من القدرة على الحياة.
وأحد الدوافع الرئيسة لهذا القطع هو سعي النظام إلى إخفاء صور إذلاله عسكريًا وأمنيًا أمام ضربات إسرائيل. ومع توسع الهجمات إلى عمق مراكز القيادة وبرامج الصواريخ والنووي، يشاهد الإيرانيون تلك الأحداث ويروونها.
وتناقض رواياتهم تمامًا دعاية النظام وتفاخره، وهو الذي لا يريد أن يرى أحد هزيمته أو يرويها؛ ولهذا، الصمت الرقمي ليس لحماية الأمن القومي، بل لحجب حقيقة الإذلال الحكومي.
المجتمع بلا صوت ولا وسيلة
يصف علم الاجتماع المعاصر الإنترنت بأنه جزء من البنية الحيوية الشبكية؛ والتي بدونها تدخل المجتمعات في "صمت تواصلي"، وتبقى عاجزة ومعزولة في مواجهة السلطة. في ظل هذا الصمت، لا نقل للمعلومات، ولا تنسيق للمساعدة، ولا حتى طلب للنجدة.
لسنا في ساحاتهم
لطالما قدم النظام الإيراني نفسه، في رواياته الرسمية، على أنه "ممثل الشعب"؛ من "العمق الاستراتيجي" في المنطقة إلى "وحدة محور المقاومة". لكن الواقع الاجتماعي في إيران يحكي قصة مختلفة تمامًا.
وأثبتت تجارب متكررة- من احتجاجات 2017 إلى 2022، ومن المقاطعة الواسعة للانتخابات المفبركة إلى كارثة كورونا"- أن الشعب الإيراني انسحب مرارًا من المشهد الرسمي واختار مساره الخاص.
وحرب النظام مع إسرائيل هي ساحة جديدة لهذا الانفصال. الإيرانيون في هذه الحرب ليسوا مشاركين، بل مشاهدين قلقين، بل وضحايا. لا يستفيدون من انتصارات النظام، ولا يأمنون من هزائمه. ومهما كانت نهاية هذه الحرب، فإن الشعب الإيراني سلك طريقًا مغايرًا تمامًا لما اختاره النظام.
الإنترنت المقطوع.. الرواية المصادرة
في أيام تمتلئ فيها السماء بالصواريخ، ويتلهف الإعلام العالمي إلى الأخبار، لا يُسمع إلا الصوت الرسمي للنظام الإيراني، أما الشعب، فرغم كونه في عين الخطر، فلا يملك حتى حق رواية الخطر.
هذا الصمت القسري يُضاعف حجم الكارثة: فالمعاناة موجودة، لكن يُنكر وجودها.
وفي علم الاجتماع السياسي، يرى المفكر والفيلسوف الفرنسي، ميشال فوكو، أن السلطة تتحقق من خلال السيطرة على الجسد والمعرفة. وبقطع الإنترنت، يترك النظام أجساد شعبه في ساحة الحرب بلا حماية، ويمحو معرفتهم وشهاداتهم. وهذا شكل من القتل المزدوج: مادي ومعرفي.
القطيعة الكاملة بين الشعب وآلة الحرب
في مواجهة هذا الاحتكار للسرد، يعبر سلوك المجتمع الإيراني عن رواية مغايرة. الناس لا يشاركون النظام في حربه، بل يلتزمون الصمت، يهاجرون، يسخرون، ويختارون الامتناع. صمتهم، كما وصفه الكاتب الأميركي الناشط في مجال حقوق الإنسان، إيلي فيزل، في تجربة "الهولوكوست"، ليس دليل غضب، بل إعلان لانتهاء العلاقة.
عندما يُقطع الإنترنت، لا تضيع الاتصالات فقط، بل ينقطع آخر خيط يربط بين الدولة والمجتمع؛ فالنظام الذي يترك شعبه في خطر، ويصادر صوتهم، يفقد كل شرعية لادعاء تمثيلهم.
قطع الإنترنت.. إعلان نهاية الشرعية
في عالم باتت التكنولوجيا أساسًا للبقاء، فإن قطع الإنترنت أثناء الحرب يعادل قطع الأكسجين في المستشفى. لا يمكن اعتباره أداة أمنية فحسب؛ إنه قرار ضد الحياة.
قطع الإنترنت في إيران، في خضم حرب لم يشعلها الشعب، هو قتل صامت، والمجتمع الإيراني، من خلال كل امتناع، وكل صمت، وكل محاولة لبناء قنوات بديلة، يُعلن: "في هذه الحرب، لسنا طرفًا".