الهجمات الإسرائيلية لم تترك خيارًا للنظام الإيراني سوى المفاوضات

استهدفت الهجمات الإسرائيلية البنية التحتية للقيادة العسكرية التابعة للنظام الإيراني، مما وضع طهران في موقف ضعيف مع خيارات محدودة للرد، ومن بين هذه الخيارات حرب شاملة لا تملك إيران القدرة عليها ولا احتمال للانتصار فيها.
وقدمت هذا التقييم وكالة "رويترز"، يوم السبت 14 يونيو (حزيران)، بناءً على آراء أربعة مسؤولين أمنيين في المنطقة.
ورفعت الهجمات الإسرائيلية المستمرة على إيران والضربات الصاروخية للنظام الإيراني على إسرائيل، التي بدأت مساء الجمعة 13 يونيو، المواجهة بين العدوين اللدودين إلى مستوى غير مسبوق. وهي مواجهة كانت تدور لسنوات في الخفاء، ثم تصاعدت بعد هجوم الحليف الإيراني، حركة حماس، على إسرائيل عام 2023.
ووفقًا لمصادر أمنية إقليمية، فمن غير المرجح أن تتمكن إيران من تنفيذ هجمات بفاعلية الهجمات الإسرائيلية نفسها، حيث إن قدراتها الصاروخية وشبكتها العسكرية في المنطقة قد تدهورت بشدة، منذ بداية حرب غزة، بفعل الهجمات الإسرائيلية المتكررة.
وذكرت وكالة "إرنا" الإيرانية أن طهران أطلقت مئات الصواريخ الباليستية على إسرائيل، ردًا على الهجمات، لكن الجيش الإسرائيلي أفاد بأن عدد الصواريخ كان أقل من 100، وأن معظمها تم اعتراضه أو لم يصب الهدف. وبلغ عدد القتلى في هذا الهجوم ثلاثة أشخاص، بينما وصل عدد الجرحى، حسب آخر الأنباء، إلى 172 شخصًا.
وبحسب المصادر الأمنية، فإن قادة إيران، الذين يشعرون بالإذلال والقلق الشديد على بقائهم، لا يستطيعون أن يظهروا ضعفًا أمام الضغط العسكري الإسرائيلي؛ وهو ما يزيد من خطر تصاعد الصراع، بما في ذلك هجمات خفية ضد إسرائيل أو حتى الخيار المحفوف بالمخاطر المتمثل في محاولة تسريع صنع قنبلة نووية.
ويؤكد الخبراء أن انسحاب إيران من معاهدة عدم الانتشار سيكون خطوة جادة وإشارة إلى تسريع تخصيب اليورانيوم إلى مستوى صنع الأسلحة.
وقال الباحث في مركز كارنيغي في بيروت، مهند الحاج علي، لوكالة "رويترز": "إذا استسلموا، فقد فقدوا بقاءهم. عليهم توجيه ضربة قوية لإسرائيل، لكن خياراتهم محدودة. أعتقد أن خيارهم التالي سيكون الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)".
وأضاف: "إن الهجوم الإسرائيلي كان ضخمًا، استهدف أسماء بارزة وقتل قادة كبارًا، وألحق ضررًا جسيمًا بالقيادة العسكرية للنظام الإيراني وبرنامجها الصاروخي، وهو أمر غير مسبوق".
ماذا عن نتائج المفاوضات؟
لم تعلن طهران بعد ما إذا كانت ستشارك في الجولة السادسة من المفاوضات المتوقفة مع الولايات المتحدة، والمقرر عقدها يوم الأحد، 15 يونيو، في سلطنة عُمان.
وأكد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، إسماعيل بقائي، يوم السبت 14 يونيو، أن طهران لا يمكنها الاعتقاد بأن إسرائيل "ارتكبت مثل هذه الأعمال العدوانية في المنطقة دون تنسيق أو موافقة مسبقة من الولايات المتحدة"، مضيفًا: "ما زال من غير الواضح ما القرار، الذي سنتخذه يوم الأحد بهذا الشأن".
والجدير بالذكر أن النفوذ الإقليمي للنظام الإيراني تراجع؛ بسبب الهجمات الإسرائيلية على وكلائها: حماس في غزة، وحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والميليشيات في العراق، بالإضافة إلى سقوط نظام حليفها المقرب بشار الأسد في سوريا.
كما استهدفت العقوبات الغربية صادرات النفط الإيراني، بينما ينهار الاقتصاد تحت وطأة أزمات متعددة، منها انهيار قيمة العُملة، والتضخم الجامح، ونقص الطاقة والمياه.
وقال المحلل الإقليمي، سَركيس نعوم، لوكالة "رويترز": "لم يعد الإيرانيون قادرين على الرد عبر الوكلاء، بعدما قام الإسرائيليون بتفكيك إمبراطورية إيران قطعة قطعة، وهم يدمرونها شيئًا فشيئًا.. والآن بدأوا يزرعون الشكوك الداخلية حول عدم قابليتها للهزيمة. هذه ضربة قاصمة".
الخيار النووي
قال رئيس مركز دراسات الخليج العربي، عبد العزيز الساجر: "إن إيران قد دُفعت إلى زاوية الحلبة ولم يتبق أمامها سوى خيارات محدودة".
وأضاف: "قد يكون أحد هذه الخيارات تقديم ضمانات سرية بوقف التخصيب وتفكيك البرنامج النووي، حيث إن أي تراجع معلن قد يُثير رد فعل داخليًا حادًا".
وأشار إلى أن الخيار الآخر فقد يكون العودة إلى الحرب السرية، على غرار التفجيرات، التي استهدفت سفارات ومنشآت عسكرية أميركية وإسرائيلية في ثمانينيات القرن الماضي.
وتابع: "أما الخيار الثالث والأكثر خطورة، فهو الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية وتسريع برنامج التخصيب".
وحذر الساجر من أن مثل هذه الخطوة ستكون بمثابة إعلان حرب، ومن المحتمل أن تثير رد فعل دوليًا شديدًا "ليس فقط من إسرائيل، بل من الولايات المتحدة والقوى الغربية أيضًا"، على حد قوله.
وبحسب مصدرين إقليميين، فقد قُتل ما لا يقل عن 20 قائدًا رفيع المستوى في الهجمات الإسرائيلية، بينهم رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، محمد باقري، وقائد الحرس الثوري، حسين سلامي، وقائد القوة الجو- فضائية في الحرس الثوري، أمير علي حاجي زاده.
وفي المقابل، أوضحت المحللة السابقة في الموساد والباحثة الحالية في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، سيما شاين، أن إسرائيل لا تستطيع بمفردها تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل.
وأضافت: "لذا، إذا لم تدخل الولايات المتحدة الحرب، فمن المرجح أن يبقى جزء من المشروع النووي الإيراني قائمًا".
زلزال في أركان السلطة
بحسب مسؤول إقليمي رفيع المستوى مقرّب من النظام الإيراني، فإن الهجمات الإسرائيلية، يوم الجمعة 13 يونيو، لم تُلحق فقط أضرارًا استراتيجية، بل هزّت أركان نظام الحكم في إيران.
وقال هذا المسؤول لوكالة "رويترز": "لقد حلّت الحيرة والقلق محلّ العناد، وخلف الأبواب المغلقة، هناك خوف عميق من التهديدات الخارجية، وكذلك من انهيار السيطرة الداخلية".
وأضاف: "لقد انتشرت موجة من الذعر بين قادة البلاد. هناك خوف يتجاوز مجرد تهديد المزيد من الهجمات، إنه الخوف من الاضطرابات الداخلية".
ومن جهته، أكد مسؤول سابق في النظام الإيراني أن مقتل قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، بأمر من الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في ولايته الأولى عام 2020، كان بداية الانهيار.
وأوضح أنه منذ ذلك الحين، فشلت إيران في استعادة نفوذها الإقليمي، ولم تعد الأمور كما كانت أبدًا، مضيفًا: "قد تكون هذه الضربة بداية النهاية".
وحذّر من أن أي احتجاجات داخلية ورد فعل قمعي من النظام قد يأتي بنتائج عكسية، خاصة مع استمرار الغضب الشعبي المتراكم؛ بسبب العقوبات والتضخم والقمع المستمر لسنوات.
ومن جهته تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في رسالة مصورة بعد الهجمات، وقال إنه يسعى لتغيير النظام في إيران، ووجّه رسالة للشعب الإيراني: "نحن لا نحاربكم، نحن نحارب الديكتاتورية القاسية التي قمعتكم طوال 46 عامًا. أؤمن بأن يوم حريتكم قريب".
ويُعتقد أن طموح تغيير النظام قد يكون وراء استهداف عدد كبير من القادة العسكريين الكبار، وهي خطوة يبدو أنها أربكت الأجهزة الأمنية للنظام الإيراني.
وأضافت المحلّلة سيما شاين لـ "رويترز": "هؤلاء القادة كانوا شخصيات محورية، خدموا لسنوات طويلة في مناصبهم، وكانوا جزءًا أساسيًا من استقرار النظام، خاصة على الصعيد الأمني."
وفي سياق متصل، أفادت وسائل إعلام إيرانية رسمية بمقتل اثنين على الأقل من المسؤولين عن البرنامج النووي الإيراني، هما فريدون عباسي ومحمد مهدي طهرانجي، في الهجمات الإسرائيلية.
الإمبراطورية المتهاوية
أصبح حزب الله اللبناني، أقوى وكلاء النظام الإيراني في المنطقة، في موقف لا يسمح له بالرد على الهجمات، التي تستهدف إيران.
وفي الأيام التي سبقت الهجمات على إيران، كشفت مصادر أمنية مقربة من حزب الله، لوكالة "رويترز"، أن الحليف الإيراني لن يشارك في أي رد انتقامي، خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى هجوم إسرائيلي آخر على لبنان.
وقد أضعفت الضربات، التي شنتها إسرائيل ضد حزب الله، العام الماضي، قوته بشكل كبير، حيث قُتل قادته، وفُقد آلاف من مقاتليه، ودُمّرت أجزاء واسعة من قواعده في جنوب لبنان وضواحي بيروت.
ويمكن أن تمتد المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل بسرعة إلى الدول الخليجية الواقعة في خط النار بين العدوين، والتي تستضيف قواعد عسكرية أميركية.
ويقول المحللون إن ترامب قد يستخدم تبعات الهجمات الإسرائيلية لإجبار إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات، لكن هذه المرة في ظل ظروف أكثر عزلةً لإيران وإجبارها على تقديم تنازلات أكبر.
وقال نعوم لـ "رويترز" في هذا الصدد: "شيء واحد واضح: إمبراطورية إيران تنهار. هل لا يزال بإمكانهم تحديد شروط هذا التراجع؟ ربما، لكن ليس عسكريًا. فلم يتبقَ سوى خيار واحد فقط: المفاوضات".