حوار في ظل العداء.. هل التوتر بين إيران وأميركا أكثر استدامة من الدبلوماسية؟
يستمر الحوار بين إيران والولايات المتحدة وسط تعبير الطرفين عن تفاؤل حذر، مع تحذيرات متبادلة بأن أيديهما على الزناد. جدار انعدام الثقة مرتفع، والتوترات متجذرة لدرجة يصعب معها تخيل أن يؤدي اتفاق أو تراجع مؤقت- كما يصفه المرشد علي خامنئي- إلى صداقة أو سلام دائم.
خلفية الصراع: تاريخ طويل من العداء
يعود الصراع بين إيران وأميركا إلى عقود مضت، بدءًا من انقلاب 19 أغسطس (آب) 1953، مرورًا بأزمة احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية، وصولًا إلى العقوبات الشاملة وانسحاب أميركا من الاتفاق النووي في 2018.
هذا التاريخ ليس مجرد سلسلة من الأحداث السياسية أو الإجراءات المتبادلة، بل يحمل في طياته روايات عدائية متبادلة بين الطرفين، تعكس رؤى كل منهما للآخر كعدو.
هذه الروايات ليست مجرد تعبيرات سطحية، بل هي انعكاس لطبقات متعددة من الخلافات المتأصلة في الخطابات السياسية، وأنظمة الحكم، وآليات القوة، والتي تلقي بظلالها على المفاوضات، وحتى على أي اتفاق محتمل.
إعادة إنتاج التوتر على طرفي طاولة المفاوضات
منذ أزمة الرهائن، اعتمدت إيران على فكرة تصدير الثورة ودعم جماعات في المنطقة لتعزيز موقعها ضد "الأعداء"، وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
يصف قادة إيران الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط بـ"الهيمنة" و"الاستكبار"، ويردون عليه بمفاهيم "المقاومة" و"الاستقلال".
منذ البداية، عُبر عن الصراع بين طهران وواشنطن بلغة عدائية: "الشيطان الأكبر" من جهة إيران، و"الملالي المجانين" من جهة أميركا. كلا الطرفين يروي قصة محددة لإقناع جمهوره الداخلي وتبرير إجراءاته، محاولًا فرض روايته كـ"حقيقة" مقابل "أكاذيب العدو".
في إيران، تُصوَّر أميركا كرمز للاستعمار والحرب والمؤامرات. في أميركا، تُوصف إيران كدولة مارقة وغير جديرة بالثقة، تهدد "النظام العالمي" ببرنامجها النووي ونفوذها الإقليمي.
هذه ليست مجرد ادعاءات سياسية، بل هي أسس لاتخاذ القرارات، تحدد حدود السياسات، وتجعل طريق الحوار ضيقًا ومليئًا بالغموض.
حتى مع استمرار المفاوضات اليوم، تُحذر وسائل إعلام إيرانية مقربة من النظام من "الثقة بوعود الشيطان الأكبر"، بينما يرى محللون أميركيون- مثل إليوت أبرامز- أنه لا ينبغي التساهل مع طهران.
العداء: من الشعارات إلى الأفعال
لم تخف لغة العداء بين إيران وأميركا في الأسابيع الأخيرة، حتى لو بدت هناك تغييرات رمزية مثل إزالة الأعلام الأميركية من شوارع طهران. فالتوتر لا يقتصر على الشعارات أو الرموز، بل يتجذر في الهياكل الأمنية والعسكرية.
في الأشهر الأخيرة، أرسلت إدارة ترامب سفنًا حربية جديدة إلى المنطقة، وعززت العلاقات العسكرية مع إسرائيل والدول الخليجية، محددةً حدودًا جديدة للتصدي العسكري لإيران.
في المقابل، تسعى طهران، التي تضرر العديد من أذرعها الوكيلة، إلى توسيع جغرافية "محور المقاومة" عبر تفعيل الحوثيين في شرق إفريقيا والبحر الأحمر.
بهذا المعنى، يمارس الطرفان نوعًا من "رسم الحدود العسكرية" في المنطقة، وهو ما يتعارض مع منطق المفاوضات ويمهد لمواجهات مباشرة وغير مباشرة.
الحوار تحت أعين إسرائيل
في مثل هذا السياق المتوتر، تجري المفاوضات ليس على أساس الثقة، بل على افتراض استمرار التهديد وضمن إطار أمني. تتجلى هذه النظرة في مواقف مسؤولي النظام الإيراني، الذين يرون أنفسهم "مُصابين بخيانات أميركا" ويتحدثون عن "درس كبير من البرنامج النووي".
هذا المنظور يؤدي إلى سياسة عبّر عنها نائب رئيس المكتب السياسي العقائدي لقيادة الحرس الثوري بإيجاز: "بالتوازي مع المفاوضات، قواتنا المسلحة جاهزة وأيديها على الزناد".
في الجانب الآخر، الوضع مشابه إلى حد كبير. يعرّف الرئيس الأميركي المفاوضات ضمن ثنائية "الاتفاق أو الحرب". الحوار في هذه الظروف، بقدر ما هو أداة لتخفيف التوتر، هو أيضًا امتداد لمنطق الصراع. (لا سيما أن إسرائيل، بتهديدها بضرب المنشآت النووية الإيرانية وتأكيدها المستمر على حقها في العمل الاستباقي، تزيد من اشتعال التوتر بين الطرفين).
هل التوتر أكثر استدامة من الدبلوماسية؟
كما أظهرت تجربة الاتفاق النووي، لا ينتهي التوتر بين إيران وأميركا بتوقيع اتفاق. طالما يستمر كل طرف في تعريف الآخر كـ"عدو لا يتغير" ويجلس إلى طاولة المفاوضات بيد على الزناد، فإن الحوار وحتى الاتفاق يصبحان امتدادًا للعداء، يُستخدمان لإدارة الأزمات وتثبيت المواقع، وليس لحل الخلافات.
قبل الجولة الثالثة من المفاوضات، أشار خامنئي بتعابير دينية إلى أن أي اتفاق سيكون مؤقتًا، كأن الهدف من الدبلوماسية هو كسب الوقت لإدارة الأزمات الداخلية والحفاظ على المواقع في الميدان، وليس تحقيق سلام دائم.
يدّعي قادة طهران وواشنطن أنهم يسعون للسيطرة على التوتر، لكن لا توجد تغييرات جوهرية في رواياتهم المهيمنة أو في الهياكل القوية التي تُنتج العداء.
من هذا المنظور، تبدو المفاوضات الحالية جزءًا من دورة استنزاف مستمرة، تنبثق منها التوترات بأشكال جديدة. حتى لو توصل الطرفان إلى اتفاق، فبدون تغييرات هيكلية، لن ينتهي العداء بين إيران والولايات المتحدة. بل إن أي اتفاق، في حال انهياره، قد يعزز شرعية اللجوء إلى العمل العسكري أكثر من أي وقت مضى.