ولم تكن زيادة سعر البنزين في إيران يومًا مجرد إجراء اقتصادي؛ فمع كل ارتفاع في سعر الوقود، تظهر حقائق تتجاوز الاقتصاد: ضعف الحوكمة، اقتصاد الريع، غياب الشفافية، تدهور المعايير، والفجوة العميقة بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي للمواطنين.
ويأتي قرار الحكومة الأخير باعتماد ثلاث شرائح سعرية للبنزين ابتداءً من 13 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، في هذا السياق ذاته؛ إجراء يحمل عنوان "الإصلاح"، لكنه عمليًا ليس حلاً للمشكلة بقدر ما هو نقل للتكاليف البنيوية إلى المجتمع.
العدالة المعلَنة وواقع الضغط على الأسر
تقدّم حكومة بزشكيان هذه السياسة بوصفها خطوة نحو العدالة، وتؤكد أن البنزين الرخيص يخدم الطبقات المرفهة أكثر من غيرها. لكن الوقائع على الأرض لا تدعم هذا الطرح؛ فالحصص المدعومة تراجعت، والسعر البالغ خمسة آلاف تومان، الذي كان يُفترض أن يكون سعرًا تفضيليًا، بات بالنسبة لكثير من الأسر السعر الفعلي. كما أن الحديث عن مراجعات فصلية يشير إلى أنّ هذا الإجراء ليس سوى بداية لمسار متصاعد في الأسعار.
في مثل هذه الظروف، يفقد مصطلح "إصلاح السعر" مضمونه الحقيقي، ويتحوّل إلى أداة لنقل الضغط المالي للحكومة إلى الأسر التي أنهكتها سنوات من التضخم، والانخفاض الحاد في القوة الشرائية، وعدم الاستقرار الاقتصادي.
الكلفة الحقيقية للإنتاج.. فجوة بين الادعاء والواقع
لا ينسجم ادعاء الحكومة بأن كلفة إنتاج كل لتر من البنزين تبلغ 34 ألف تومان مع البيانات المتوفرة. فالقوائم المالية للمصافي تشير إلى أن السعر الحقيقي لبيع البنزين للحكومة يبلغ نحو 25 ألف تومان، وأن كلفة الإنتاج والتكرير، دون احتساب سعر النفط الخام، ليست سوى بضعة آلاف من التومان.
والجزء الأكبر من الرقم الذي تعلنه الحكومة هو قيمة النفط الخام الذي هو ملكٌ للشعب، لا للدولة؛ واستخدام قيمة الأصول العامة باعتبارها "كلفة إنتاج" لتبرير رفع السعر ليس تحليلاً اقتصاديًا، بل خدعة محاسبية.
وهذه الفجوة بين الرواية الرسمية والواقع الاقتصادي تقوّض الثقة العامة تدريجيًا.
التهريب المنظّم للوقود.. الحلقة المغفلة في "الإصلاح"
يمثّل تهريب الوقود المنظّم أحد أخطر المحاور، التي يجري التعتيم عليها عند مناقشة زيادة الأسعار. فإذا كان الاستهلاك الرسمي المعلَن للبلاد 130 مليون لتر يوميًا، بينما يقدّر الخبراء الاستهلاك الفعلي بين 70 و100 مليون لتر، فإن معنى ذلك أن ما لا يقل عن 30 مليون لتر يوميًا يخرج من الشبكة الرسمية.
وهذا الحجم الهائل لا يمكن تفسيره بمخالفات فردية أو صغيرة؛ إنه حركة صناعية ذات دعم لوجستي واسع. وما لم تُظهِر الحكومة شفافية حقيقية حول هذا الفارق الكبير، فإن أي زيادة سعرية ستُعتبر في نظر المجتمع محاولة للتغطية على الفساد والقصور، ونقل العبء الاقتصادي إلى المواطنين.
تدني جودة الوقود وصناعة السيارات.. كلفة يدفعها المواطن مرتين
في ظل الجدل حول السعر، يجري عمدًا تجاهل مسألة جودة الوقود ومعايير السيارات. فجزء من الوقود المنتج في البلاد هو "ريفورمیت" مشتق من البتروكيمياويات، وهو ذو مستوى تلوّث أعلى من المعايير العالمية. وفي الوقت نفسه، تستهلك السيارات المحلية ما يقرب من ضعف المتوسط العالمي من البنزين. والنتيجة أن المواطنين يشترون اليوم وقودًا أكثر تلوثًا وبسعر أعلى، ويدفعون فوق ذلك كلفة تخلّف صناعة السيارات المحلية.
وهذه الحالة ليست مجرد خطأ في السياسات، بل دلالة على بنية يفضّل صانعو القرار فيها إدارة أزماتهم عبر نقل العبء إلى المواطنين.
التداعيات النفسية والاجتماعية.. وظلّ نوفمبر "الدامي"
ترك ارتفاع سعر البنزين آثاره النفسية والاجتماعية قبل تطبيقه رسميًا. فارتفاع تكاليف النقل، وزيادة أسعار السلع، وصعوبة التنقّل وتلبية الاحتياجات اليومية للعمال والمعلمين والموظفين، كلها أمثلة مبكرة على هذه الآثار. وقد واجهت كثير من الأسر ضغوطًا نفسية ومالية قبل أن يبدأ تنفيذ القرار.
الأهم أن الذاكرة الجماعية لـ "نوفمبر 2019" لا تزال حية؛ وهو جرح لم يندمل، ويعاد فتحه مع كل قرار اقتصادي حساس، ليعمّق الفجوة بين المواطنين والسلطة.
"إصلاح" بلا شفافية.. ليس إصلاحًا
لا معنى للنقاش حول الإصلاح الاقتصادي في غياب الشفافية. فالإصلاح يكون حقيقيًا حين تُعلن الكلفة الفعلية لإنتاج البنزين، وتتضح أبعاد التهريب، وتتحسن جودة الوقود ومعايير السيارات، ويُبيَّن مسار إنفاق الإيرادات المتأتية من الزيادة.
ولا يتوفر أي من هذه الشروط اليوم؛ حيث تطلب الحكومة من المواطنين أن يتحملوا كلفة "العدالة"، لكنها غير مستعدة لشرح جذور الأزمة ودور البُنى الفاسدة فيها.
وهذا النهج يكشف أن الرياء لا يزال العمود الفقري للسياسات الاقتصادية في النظام الإيراني.
دورة تتكرر من جديد
طالما أن زيادة سعر البنزين لا تؤدي إلى إصلاح بنيوي، وشفافية، ومساءلة، فلن تجلب سوى مزيد من الضغوط على حياة الناس، وستجعل مستقبلهم الاقتصادي أكثر هشاشة. فبالنسبة لمجتمع يكافح التضخم، وعدم الاستقرار، واليأس العميق، فإن ارتفاع سعر البنزين ليس سياسة اقتصادية؛ بل علامة على استمرار دورة يحمّل فيها الحكمُ الشعبَ كلفة إخفاقاته.
كيف ستكون ردة فعل المجتمع؟ هل سيتكرّر نوفمبر 2019 "الدامي" هذه المرة؟