لكن الخبراء يحذّرون من أن المشكلة ليست في السماء، بل على الأرض؛ في السياسات التي دفعت البلاد نحو حافة «الإفلاس المائي»؛ من التسرّع في بناء السدود إلى الزراعة عديمة الكفاءة والإدارة المجزأة للموارد.
أمطار شحيحة وسدود شبه فارغة
وفقًا لتقرير حديث لوزارة الطاقة، بلغ حجم المياه الداخلة إلى خزانات السدود هذا العام 1.35 مليار متر مكعب فقط، وهو تراجع كبير مقارنة بالمعدلات طويلة الأجل.
كما تشير الأرقام إلى أن مجموع المياه المخزّنة في 193 سدًا كبيرًا يبلغ نحو 17.6 مليار متر مكعب، أي ما يعادل 34 في المائة فقط من طاقتها الاسمية، بانخفاض 25 في المائة عن العام الماضي.
وفي طهران، تبدو الصورة أكثر قتامة؛ إذ لا تحتوي السدود الأربعة الرئيسة المزوِّدة للعاصمة سوى على 12 في المائة من طاقتها، فيما يحفظ سد لار وحده 2 في المائة فقط من سعته.
والمقلق أن حجم المياه الواردة إلى سدود طهران تراجع بنسبة 43 في المائة خلال عام واحد، ما ينذر بضغط خطير على الشبكات الحضرية. وإذا استمر الوضع، فقد يشهد ملايين السكان في الصيف المقبل تقييدًا وجداول صارمة لتوزيع المياه.
الزراعة.. المتهم والضحية
تقع الزراعة في قلب الأزمة؛ فهي تستهلك أكثر من 80 في المائة من موارد إيران المتجددة، رغم أن إنتاجيتها المائية في كثير من المناطق لا تتجاوز 40 في المائة.
بمعنى أن جزءًا كبيرًا من مياه الري يُهدر بسبب التبخر والتسرّب واستخدام طرق تقليدية.
وتشكّل الاستهلاكات المنزلية 6- 10 في المائة فقط من المياه، لكن الخطاب السياسي يركّز غالبًا على دعوات المواطنين لتقليل الاستخدام، بينما تكمن جذور الأزمة في مكان آخر: محاصيل شديدة الاستهلاك للماء، وسياسات "الاكتفاء الذاتي" غير الواقعية، والتخصيص غير المدروس للموارد.
وفي كثير من الأحواض، يفوق استهلاك المياه الجوفية قدرة الطبيعة على تعويضها بمقدار مرتين إلى ثلاث مرات، ما أدى إلى هبوط منسوب المياه، وجفاف الآبار والعيون، وارتفاع معدلات الهبوط الأرضي، التي تصل في بعض المناطق إلى 30 سم سنويًا، وهي ظاهرة يصفها الخبراء بـ "الزلزال الصامت".
مناخ أكثر حرارة وأمطار أقل
أسهم تغيّر المناخ في تفاقم الأزمة؛ فقد ارتفع متوسط درجات الحرارة في إيران خلال العقد الأخير بنحو 1.8 درجة مئوية، ما يعني تبخر مليارات الأمتار المكعبة من المياه المخزنة في السدود والتربة.
كما تغيّر نمط الأمطار؛ إذ حلّت السيول السريعة محل الأمطار المتدرجة، التي تسهم في تغذية المياه الجوفية، فأصبحت المياه تتجه بسرعة نحو الجريان السطحي بدلاً من امتصاصها في الأرض.
من إدارة الأزمة إلى أزمة الإدارة
يرى الخبراء أن جذور المشكلة تكمن في الحوكمة المائية، لا في الجفاف وحده؛ فغياب التنسيق بين وزارة الطاقة ووزارة الجهاد الزراعي ومنظمة البيئة، إلى جانب نقص الشفافية وسوء التخطيط، جعل إدارة المياه غير فعالة.
إحدى الأمثلة كانت في يوليو (تموز) الماضي، حين أُغلقت طهران وعدة محافظات مؤقتًا لتقليل استهلاك المياه والكهرباء. كان القرار مسكنًا لحظيًا، لكنه كشف غياب سياسة طويلة الأمد.
كيف يمكن الخروج من الأزمة؟
يقترح المتخصصون ثلاث خطوات عاجلة، تتمثل في:
- إصلاح نمط الزراعة: عبر التحول إلى محاصيل قليلة الاستهلاك، وتعميم الري بالتنقيط والضغط، وإعادة تقييم سياسة "الاكتفاء الذاتي الغذائي"، وفق قدرات البلاد المائية
- تجديد شبكات المياه المتهالكة: إذ تُهدر بعض المناطق أكثر من 30 في المائة من المياه المعالجة قبل وصولها للمنازل.
- تبني حوكمة شفافة تعتمد على البيانات: من خلال إتاحة المعلومات للعامة، وإشراك المجتمع المحلي، وتعزيز المساءلة المؤسساتية.
اختبار للثقة والبقاء
تعد أزمة المياه في إيران اختبارًا لفاعلية الدولة ورصيدها الاجتماعي. وإذا تأخرت الإصلاحات، فقد تتحول "الندرة" العام المقبل إلى عطش حقيقي يهدد الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
فالإفلاس المائي لا يعني فقط سدودًا فارغة؛ بل إنه مؤشر على تصدّع العلاقة بين الطبيعة والدولة والمجتمع، وهو تصدع إذا لم يُعالج، فسيدفع ثمنه الجميع من تراجع الثقة، وتآكل الأمن، ومخاطر تتجاوز حدود الجفاف بكثير.