حرب باردة في آسيا الوسطى.. صراع النفوذ الخفي بين إيران وإسرائيل

تبدو آسيا الوسطى منطقة هادئة ومحايدة ظاهريًا، بين روسيا والصين والشرق الأوسط، لكنها في الواقع تخفي وراء هذه الهدوء منافسة معقدة بين إيران وإسرائيل.

تبدو آسيا الوسطى منطقة هادئة ومحايدة ظاهريًا، بين روسيا والصين والشرق الأوسط، لكنها في الواقع تخفي وراء هذه الهدوء منافسة معقدة بين إيران وإسرائيل.
فالصراع بين الطرفين لا يجري في ساحات القتال، بل في شبكات الاستخبارات الخفية، والممرات التجارية و"الترانزيت"، والمشروعات الاقتصادية، ودهاليز التجارة غير الرسمية.
وتجد الدول الخمس في آسيا الوسطى (كازاخستان، أوزبكستان، تركمانستان، طاجيكستان، وقرغيزستان)، التي كانت حتى قبل عقود جزءًا من الاتحاد السوفياتي، نفسها اليوم عالقة بين نفوذين متضادين: إيران التي تسعى إلى توسيع عمقها الاستراتيجي، وإسرائيل التي تحاول كبح هذا التمدد.
وبعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، سعت طهران إلى ملء الفراغ الأميركي في المنطقة، وتحويل آسيا الوسطى إلى هامشٍ آمن لنفوذها الإقليمي.
ومن خلال عضويتها في منظمة شنغهاي للتعاون، ومشاركتها في مشاريع النقل الإقليمي، مثل ممر الشمال- الجنوب، حاولت إيران أن تفتح لنفسها ممرات برية جديدة نحو روسيا والصين، وصولًا إلى أوروبا.
وبالنسبة لدول حبيسة، مثل أوزبكستان وكازاخستان، فإن الوصول إلى ميناءي بندر عباس وتشابهار يُعدّ فرصة اقتصادية مغرية، لكن هذه المسارات تمنح طهران ورقة ضغط استراتيجية في يدها.
وإلى جانب النفوذ الاقتصادي، أعادت إيران بناء حضورها الثقافي والسياسي في بعض بلدان المنطقة. فاللغة الفارسية والإرث الثقافي المشترك في طاجيكستان وأجزاء من أوزبكستان لا تزالان أدواتٍ فعالة للقوة الناعمة الإيرانية.
ولكن الأيديولوجيا الدينية المتشددة للنظام الإيراني ظلّت دائمًا عائقًا أمام ثقة الحكومات العلمانية في المنطقة.
وتمثل طاجيكستان المثال الأوضح؛ فرغم الروابط اللغوية والثقافية مع طهران، فإنها تخشى منذ سنوات من التدخل الإيراني في شؤونها الداخلية، بل إنها أغلقت في فترات سابقة مراكز ثقافية تابعة لإيران.
وفي الجانب المظلم من المشهد، تُتهم طهران بأنها تستخدم شبكاتٍ مرتبطة بروسيا لتجاوز العقوبات، وشراء معدات عسكرية ومواد حساسة.
وتشير تقارير مستقلة غربية إلى وجود دوائر تجارية غير شرعية في كازاخستان وقرغيزستان متورطة في صفقات مواد صناعية ووقود لصالح إيران.
ورغم عدم وجود أدلة علنية قاطعة على شراء طهران لليورانيوم أو تجهيزات محظورة، فإن نمط النشاطات غير الشفافة على طرق الترانزيت يعزز الاعتقاد بأن الحرس الثوري وأجهزة الأمن الإيرانية تستفيد من المنطقة كـ "قناة رمادية" لتجاوز القيود الدولية.
وفي المقابل، نجحت إسرائيل خلال الأعوام الأخيرة في تثبيت موطئ قدم هادئ، لكنه فعّال في آسيا الوسطى.
فالدول التي ضاقت ذرعًا بالنهج الأيديولوجي الإيراني تبحث عن شركاء يقدمون الأمن والتكنولوجيا والاستثمار بدلًا من "الثورة والمذهب".
ومن خلال التكنولوجيا الزراعية، وإدارة المياه، والطاقة الشمسية، والأمن السيبراني، أصبحت إسرائيل شريكًا موثوقًا لكل من كازاخستان وأوزبكستان.
وتسعى دول آسيا الوسطى إلى تحقيق توازن دقيق في علاقاتها الخارجية: فهي تصوّت في الأمم المتحدة لصالح قرارات تُدين الهجمات الإسرائيلية، لكنها في الوقت نفسه توقّع اتفاقيات تعاون تكنولوجي وتعليمي مع تل أبيب.
وتستخدم كازاخستان وأوزبكستان هذه العلاقات لتحديث اقتصادهما وتعزيز مكانتهما الدولية، دون التضحية بعلاقاتهما مع طهران.
ويعكس هذا النهج السياسة الخارجية المميزة للمنطقة: حياد نشط، تعامل مع الجميع، وتبعية لأحد.
ولكن هذا التوازن هش. ففي أذربيجان، باتت الحدود بين النفوذين الإيراني والإسرائيلي أكثر حساسية من أي وقت مضى.
وبعد حرب "ناغورني قره باغ" (نزاع مسلح بين أذربيجان وأرمينيا حول إقليم ناغورني قره باغ)، عمّقت باكو علاقاتها الدفاعية مع إسرائيل، التي زودتها بأسلحة كانت حاسمة في انتصارها العسكري.
وردّت إيران بمناورات عسكرية على الحدود، محذّرة من "قواعد تجسس إسرائيلية قريبة من حدودها".
وخلف هذه المواجهة المعلنة، هناك طبقة خفية من العلاقات الاقتصادية غير الرسمية تشمل تهريب الوقود وغسل الأموال، ويستفيد منها أحيانًا أطراف من الجانبين.
وعلى المستوى الخفي، تحوّلت آسيا الوسطى إلى ساحة حرب باردة بين أجهزة الاستخبارات والشركات الوهمية وشبكات المال المظلم. فإيران تمد نفوذها عبر الاقتصاد والثقافة والمعلومات، بينما تبني إسرائيل جدارًا ناعمًا من الأمن والاستثمار لمواجهة هذا التمدد.
ووفر الفساد البنيوي وضعف الرقابة في بعض جمهوريات ما بعد الاتحاد السوفياتي بيئة خصبة لتغلغل هذين الفاعلين الخارجيين.
وتشير تقارير إلى تهريب الأسلحة والمخدرات والمعادن النادرة من طاجيكستان وقرغيزستان، وهي شبكات تتقاطع مع المصالح الروسية والإيرانية.
ورغم غياب التأكيد الرسمي، فإن تكرار هذه المزاعم في مصادر غربية وإقليمية يدل على أن آسيا الوسطى أصبحت أحد المفاصل المظلمة للاقتصاد غير الرسمي المتصل بطهران.
أما روسيا والصين، فهما اللتان تحددان سقف وحدود اللعبة. فموسكو، التي فقدت جزءًا من نفوذها التقليدي بعد حرب أوكرانيا، لا ترغب بأن تلعب إيران أو إسرائيل بحرية في "حديقتها الخلفية".
وبكين، الحريصة على أمن ممرات "الحزام والطريق"، تخشى أي اضطراب في المنطقة، ولهذا يسعى الطرفان إلى احتواء التنافس الإيراني- الإسرائيلي ضمن حدودٍ آمنة.
وفي النهاية، المواجهة بين إيران وإسرائيل في آسيا الوسطى ليست عسكرية أو علنية، بل صراع صامت على النفوذ والممرات الجيوسياسية والشرعية الدولية.
وترى طهران في المنطقة رئة اقتصادية وجيوسياسية جديدة، بينما تستخدم تل أبيب الاستثمار والتكنولوجيا والأمن لبناء شبكة احتواء ناعمة ضدها.
ومع استمرار سياسة "الحياد المتوازن" لدى حكومات آسيا الوسطى، تبقى احتمالات التصعيد محدودة.
ولكن أي خلل كبير في ميزان الاستقرار- من انهيار هدنة إلى أزمة أمنية- قد يكسر هذا التوازن الهش، ويحوّل المنطقة من ممر اتصال إلى مسرح مواجهة مفتوحة.
وفي هذه الحالة، فإن التقارب مع نظام يعاني عزلةً دولية وأزمةَ شرعيةٍ كالنظام الإيراني قد يتحول إلى لعبٍ في أرضٍ محترقة، بينما تواصل إسرائيل استثمار "الدبلوماسية التكنولوجية" لتثبيت حضورها الآمن في قلب آسيا.