وقد أدّى تفعيل "آلية الزناد" مجددًا، في أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، إلى إزالة آخر العناصر المتبقية من الاتفاق النووي لعام 2015.
والزناد، بما يتجاوز كونه إجراءً تقنيًا، يرسّخ تحولاً استراتيجيًا كان قد بدأ سابقًا في أوروبا.
فمنذ عام 2006، لعبت دول "الترويكا" الأوروبية الثلاث: بريطانيا وفرنسا وألمانيا (E3) دور "المسهّل" وعمليًا "الداعم" للعقوبات الدولية بقيادة الولايات المتحدة، أكثر من لعبها دور الوسيط الحقيقي. لكن بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022 وتعميق التعاون العسكري بين طهران وموسكو، لم تعد أوروبا تكتفي بلعب دور العازل لِضغوط واشنطن. فهي تتحول الآن إلى شريك كامل- بل ومهندس منسجم مع واشنطن- في استراتيجيات الغرب لاحتواء إيران.
وسيعتمد مستقبل هذه العلاقة على ثلاثة مجالات مترابطة:
1- العدسة الأمنية التي تنظر أوروبا من خلالها الآن إلى النظام الإيراني.
2- القيود الاقتصادية التي ترسم هامش حركة الطرفين.
3- الديناميكيات العسكرية الإقليمية التي قد تدفع أوروبا إلى اتخاذ خيارات أصعب مما كانت عليه في الماضي.
دبلوماسية احتجاز الرهائن
أصبحت المخاوف الأمنية الآن محور سياسة أوروبا تجاه إيران. فاستمرار "دبلوماسية احتجاز الرهائن"، التي ينتهجها النظام، والمتمثلة في اعتقال واحتجاز المواطنين الأجانب لفترات طويلة بهدف الاستفادة السياسية، جعل المواقف أكثر تشددًا في العواصم الأوروبية.
وتُعد قضية سيسيل كولر وجاك باریس، المواطنين الفرنسيين اللذين احتُجزا لأكثر من ثلاث سنوات بتهمة التجسس قبل إطلاق سراحهما في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري ضمن عملية تبادل، مثال بارز على هذا الوضع.
واليوم، لا يزال الاثنان داخل السفارة الفرنسية في طهران، في انتظار معرفة ما إذا كان بإمكانهما العودة إلى بلادهما بعد محاكمة يناير (كانون الثاني) 2026 الخاصة بالمواطنة الإيرانية، مهدية أسفندياري، التي وجدت هي الأخرى نفسها محاصرة داخل سفارة طهران في باريس.
ولقد كشفت هذه القضية عن نمط تراه أوروبا اليوم "دبلوماسية قسرية"، وليس أحداثًا فردية.
وفي بريطانيا أيضًا، أدى اعتقال لينزي وكريغ فورمن، منذ يناير الماضي، على يد استخبارات الحرس الثوري، وإضرابهما عن الطعام، إلى موجة مشابهة من الغضب التي قضت على ما تبقى من حُسن النية.
العمليات المحبطة
زاد تزايد الأدلة حول النشاطات السرية للنظام الإيراني في أوروبا من حدة التوتر.
فالأجهزة الأمنية في فرنسا وألمانيا وبريطانيا ودول أخرى أحبطت خططًا كان عملاء النظام الإيراني أو الشبكات الإجرامية المرتبطة به يُكلفون فيها برصد أو استهداف معارضين أو صحافيين أو حتى مسؤولين حكوميين.
وجاء في بيان مشترك صادر عن 14 دولة غربية في يوليو (تموز) الماضي، أن أكثر من عشرين عملية قد تم إحباطها في بريطانيا وحدها منذ عام 2022.
وترى طهران أن هذه الاتهامات "ملفقة"، لكن النتيجة واضحة: أوروبا تمنح الأولوية الآن للردع، وتعزز التنسيق الأمني، وتستعد لفترة طويلة من الدبلوماسية الدفاعية؛ وهي فترة قد تشمل أيضًا عمليات طرد إضافية لدبلوماسيي النظام الإيراني.
تراجع التجارة
لا يقدم المجال الاقتصادي هو الآخر أفقًا واضحًا لتخفيف التوتر. فقرار أوروبا بإعادة فرض العقوبات عبر "آلية الزناد" قطع فعليًا وصول إيران إلى التكنولوجيا والاستثمار والأسواق الأوروبية في وقت يعاني فيه الاقتصاد الداخلي ضغطًا شديدًا.
وبلغ إجمالي تجارة السلع بين الاتحاد الأوروبي وإيران في عام 2024 نحو 4.5 مليار يورو، منها 800 مليون يورو واردات و3.7 مليار يورو صادرات. ويُتوقع الآن أن تبتعد الشركات الأوروبية، التي كانت أصلاً قلقة من العقوبات الثانوية الأميركية، بشكل أكبر عن السوق الإيرانية.
ومع ذلك، هناك غموض دائم: فأوروبا تعلم أن أي انفراجة دبلوماسية بين واشنطن وطهران قد تتطلب العودة السريعة إلى نوع من التفاعل الانتقائي، وخصوصًا في قطاع الطاقة.
الملف النووي
تظهر هذه التناقضات اليوم في فيينا. فقبل اجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من 19 إلى 21 نوفمبر، أعدت الدول الأوروبية الثلاث مسودة قرار تدعو إيران إلى وقف التخصيب وإعادة المعالجة، استنادًا إلى تقارير المدير العام للوكالة، رافائيل غروسي، بشأن النشاطات غير المعلنة.
ويعتبر النظام الإيراني هذا الإجراء "غير قانوني"، قائلاً إنه بعد انتهاء مفعول القرار 2231 في أكتوبر الماضي لم يعد لهذه المطالب أي معنى.
لكن أوروبا تجد نفسها الآن عالقة بين دورين: من جهة، شريك للولايات المتحدة في فرض العقوبات، ومن جهة أخرى، مدافع عن نظام الرقابة متعدد الأطراف.
دور روسيا
في حين يعيد تفعيل "آلية الزناد" فرض القيود على برنامج الصواريخ الإيراني، ازدادت قدرات طهران على التعاون مع روسيا.
فمنذ عام 2022، وفرت إيران لروسيا طائرات مُسيّرة وذخائر في حربها في أوكرانيا، وفي الوقت ذاته، عززت تعاونها مع موسكو في مجالات التكنولوجيا والدفاع والطاقة النووية. وتم توقيع "اتفاقية التعاون الاستراتيجي لمدة 20 عامًا" في يناير 2025، وجرى التصديق عليها في مايو (أيار) الماضي.
ويجعل استعداد روسيا لمنح إيران التسهيلات داخل مجلس الأمن مسار الضغط الأوروبي عبر القنوات متعددة الأطراف أكثر تعقيدًا.
ظل الحرب
إن أي مواجهة كبرى بين إيران وإسرائيل، سواء مباشرة أو عبر الوكلاء، ستكون لها تداعيات فورية على أمن أوروبا وإمدادات الطاقة وسياساتها الداخلية.
وقد ترد أوروبا عبر زيادة إرسال الأسلحة إلى إسرائيل أو فرض عقوبات أوسع على إيران. لكن الانقسامات الداخلية، خاصة بشأن سلوك إسرائيل في غزة، قد تضعف وحدة الموقف الأوروبي.
كما يبقى اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة في مجال المعلومات والردع والدبلوماسية عقبة أمام "الاستقلال الاستراتيجي" الأوروبي.
الخلاصة
ستحدد الأشهر المقبلة ما إذا كان مسار خفض التوتر لا يزال ممكنًا أم لا.
وسيكون قرار الوكالة في فيينا، وسلوك إيران النووي، ومسار التعاون الإيراني- الروسي مؤشرات أساسية.
وإذا لم يتحقق انفراج دبلوماسي ذو مغزى، فسيكون المسار الأكثر ترجيحًا هو تصاعد العداء وتعمّق اصطفاف أوروبا مع الولايات المتحدة في سياسة احتواء إيران. ويبقى السؤال: هل ستستطيع الدبلوماسية التفوق على أجواء الضغط والقسر وسط مشهد جيوسياسي ممزق؟