هذه السجالات، التي غالبًا ما رافقتها أقسى الاتهامات من خيانة الوطن ودفع النظام و"الدولة" نحو الهاوية، إلى محاولة الانقلاب على النظام وترديد مطالب إسرائيل وأميركا، لا تعدو كونها "عاصفة في فنجان" لا يتجاوز صداها الدوائر الضيقة المحيطة بالسلطة داخل النظام الإيراني.
وليس البيان الصادر عن الإصلاحيين ولا ردود فعل خصومهم داخل النظام إلا مشاهد مكررة من مسرحية باتت مملة، لا تجد حتى بين أنصار النظام من يرغب في متابعتها، فضلًا عن أن يكون لها أي صلة حقيقية بمطالب الأغلبية الساحقة من الإيرانيين الذين، رغم تبايناتهم، يتفقون على أمر واحد: ضرورة تغيير النظام بكل مرتكزاته ومكوناته.
البيان، الذي صدر يوم الأحد 17 أغسطس (آب) 2026، وإن كان قد جاء، بحسب كاتبيه، بعد "الحرب التي استمرت 12 يومًا" وفي وقت ما زالت فيه "النفسية الجماعية للإيرانيين مثخنة بالجراح، وما زالت ظلال اليأس والقلق تخيم على حياتهم اليومية"، إلا أن المطالب والمقترحات التي طرحها قد تجاوزها الزمن منذ فترة طويلة.
من رفع الإقامة الجبرية عن مير حسين موسوي وزهراء رهنورد، ورفع القيود عن محمد خاتمي، إلى الإفراج عن السجناء السياسيين، و"إنهاء قمع المعارضين وتخفيف النظرة الأمنية للمجتمع"، وحل الأجهزة الموازية، وإحداث تغييرات ملموسة في المؤسسات، وإعادة الجيش إلى ثكناته وإبعاده عن السياسة والاقتصاد والثقافة، وإلغاء التمييز بين "الخاص والعام"، وإصلاح إدارة الإعلام الرسمي ورفع الرقابة وتحرير الصحافة، وتغيير القوانين الخاصة بحقوق المرأة، وإخراج الاقتصاد من قبضة الأوليغارشية الحاكمة، وصولًا إلى تعليق تخصيب اليورانيوم وإصلاح السياسة الخارجية، لم تكن مجرد مطالب للبيان، بل هي نفسها وعود الإصلاحيين خلال 16 عامًا من حكم محمد خاتمي وحسن روحاني من أجل الظفر بحصة أكبر من "مائدة الثورة".
الهدف الأساسي لهذه المطالب لم يكن سوى الحفاظ على بقاء النظام، وهي لا تمت بأي صلة للمطالب الجوهرية للشعب الإيراني.
الإصلاحيون في إيران دأبوا منذ سنوات على تكرار هذه المطالب الحدّية من مركز السلطة وعلي خامنئي، ولم يتلقوا يومًا سوى الرفض. لكن المجتمع، بخلاف الأقلية المستفيدة الجالسة حول "مائدة الثورة"، تجاوز منذ زمن بعيد هذه المطالب، ولم يعد يفكر إلا في الانتقال إلى نظام ديمقراطي، علماني، ملتزم بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يتيح للإيرانيين حياة طبيعية في الداخل والخارج. ومن ثم ينظر بعين الريبة إلى أي محاولة لا ترمي مباشرة إلى هذا الهدف النهائي، ويرفضها باعتبارها مجرد وسيلة لإطالة عمر النظام.
ومن هنا، فإن ردود الفعل الصاخبة لخصوم الإصلاحيين في الإعلام الرسمي خلال الأيام الأخيرة، تبدو مصطنعة وغير ذات معنى، ما يعزز الاعتقاد بأن كلا الطرفين يسعيان لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
وقد نجح النظام لعقود في اختزال النزاعات الاجتماعية إلى صراعات بين جناحي السلطة، ليحتكر بذلك إدارة المشهد. لكنه منذ 2017 فقد هذه القدرة شيئًا فشيئًا.
فمنذ عقود، وباسم المنافسة الشكلية والمدارة بدقة، احتكرت السلطة حق تعريف القوى السياسية "المشروعة" وحرمت أي قوة خارجة عنها، وقسمت المطالب الشعبية إلى "مشروعة" و"غير مشروعة"، ومن ثم أوكلت الاستجابة للمشروع منها فقط إلى تياراتها الداخلية، بينما واجهت البقية بالقمع والسجن والإعدام.
ورغم تغير الأسماء بين "يسار ويمين"، "إصلاحي ومحافظ"، "أصولي ومعتدل"، أو حتى "متشدد ووسطي"، إلا أن الهدف ظل واحدًا: الحفاظ على النظام.
لكن مع تفشي الفساد والفشل البنيوي، انهار هذا النموذج. فجاءت احتجاجات 2017 بشعار: "إصلاحي-أصولي، انتهت القصة" لتعلن رفض الشعب لهذه اللعبة برمتها.
ومنذ ذلك الحين، تغيرت المعادلة جذريًا، وانهارت الحدود التي رسمتها السلطة بين معسكريها إلى درجة لم يعد ثمة فرق ملموس بينهما.
اليوم، في إيران، يقف من جهة أغلبية المواطنين المطالبين بتغيير النظام، ومن الجهة الأخرى أولئك الذين لا يسعون سوى لإنقاذ النظام من أزمته الوجودية المتفاقمة.
في هذا السياق، لا البيان الصادر عن جبهة الإصلاح له وزن حقيقي، ولا ردود الفعل الصاخبة لصحف مثل "كيهان" و"وطن امروز" ووكالة "فارس". فالمعركة الحقيقية تجري في ساحة أخرى، حيث لم يعد المواطنون يرون فارقًا كبيرًا بين موقّعي بيان الإصلاحيين وصحيفة "كيهان".
في إيران اليوم، لا مطالب الإصلاحيين تثير اهتمامًا، ولا ضجيج خصومهم يثير حماسة. وإذا واصل الطرفان تكرار هذا السيناريو المستهلك، فليس لأن بينهم خلافًا حول "حماية النظام"، بل لأنهم ما زالوا يأملون بإعادة فرض النموذج القديم البالي للتحكم في المواطنين.