هذه العناصر مجتمعة تجعل السؤال حول من سيحكم إيران في المستقبل سؤالًا غامضًا يصعب الحسم فيه، خصوصًا في ظل غياب ثقافة قبول الآخر وانعدام الثقة بين مكونات الساحة السياسية. ومع ذلك، فإن قراءة دقيقة للمعطيات الراهنة تتيح رسم ملامح أولية للاتجاهات المحتملة في المرحلة المقبلة.
في الداخل، لا يزال النظام الحاكم يمثّل القوة المركزية المهيمنة، غير أنه يواجه هشاشة متزايدة تتجلّى في أزماته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي الانقسامات العميقة داخل بنية السلطة ذاتها. وقد مكّنته قدرته على إعادة تدوير النخبة الحاكمة وتبديل الوجوه دون المساس بالهياكل الصلبة للأجهزة الأمنية من الحفاظ على قدرٍ من المرونة، لكنها تبقى مرونة محدودة لا تكفي لمواجهة تراكم الأزمات أو معالجة جذورها.
أما رحيل المرشد علي خامنئي المحتمل، بحكم السن والوضع الصحي، فيُتوقع أن يكون لحظة فارقة قد تُعيد تشكيل ميزان القوى الداخلي بصورة جذرية. هذا الحدث قد يقود إلى أحد مسارين متناقضين: إمّا انفجار الغضب الشعبي ونزول الشارع للمطالبة بتغيير جذري في النظام، وإما إحكام الحرس الثوري قبضته وتسريع عملية تنصيب خليفة يُرجَّح أن يكون مجتبى خامنئي، نجل المرشد، وفقًا لما تشير إليه تسريبات ومصادر مقرّبة من دوائر القرار. وقد يتم هذا الانتقال بهدوء نسبي، أو عبر تفاهمات غير معلنة مع بعض القوى الدولية لضمان استقرارٍ مؤقت، غير أنّ الشكوك تبقى عميقة حول قدرة هذا التوريث على إنتاج شرعية سياسية حقيقية. والسؤال الأهم هنا: هل سيسير مجتبى على نهج والده في ترسيخ الولاية المطلقة والهيمنة المركزية؟ أم سيتبنّى- خلافًا للمرشدين السابقين- نهجًا برغماتيًا أكثر مرونة يسعى من خلاله إلى كسب ودّ الشارع وقبول المجتمع الدولي والتخفيف من وطأة العزلة والضغوط الاقتصادية؟
لا مؤشرات واضحة حتى الآن، غير أن مجتبى يُعدّ، في نظر أوساط الحكم، الخيار الأرجح لضمان بقاء النظام واستمراريته الشكلية.
في الوقت ذاته، عادت إلى الواجهة وجوه سياسية بارزة تسعى لاستعادة مواقعها في معادلة السلطة المقبلة، وفي مقدّمتها الرئيسان السابقان حسن روحاني، ومحمود أحمدي نجاد، اللذان كثّفا ظهورهما الإعلامي في الأشهر الأخيرة وبديا أكثر جرأة في انتقاد مؤسسات النظام. هذه العودة اللافتة تعكس استعدادًا لمرحلة ما بعد خامنئي، ومحاولة لتموضع سياسي يتيح لهما أو لتياريهما لعب دورٍ في ترتيبات السلطة القادمة، سواء في إطار النظام الحالي أو في حال حدوث تحوّلٍ أعمق في بنيته السياسية.
وقد برزت داخل التيار الإصلاحي أيضا، شخصيات يمكن وصفها بـ"المغضوب عليهم" من قِبل النظام، مثل السجينين السياسيين مصطفى تاج زاده، ونرجس محمدي الحائزة على جائزة نوبل للسلام. وهؤلاء لا يتعاونون مع المعارضة في الخارج، لكنهم يمثلون تيارًا ثالثًا يسعى إلى تنظيم نفسه سياسيًا وربما لعب دورٍ محوري في مرحلة ما بعد النظام. ويحظى هؤلاء بثقة متزايدة لدى قطاع واسع من الإيرانيين بسبب مواقفهم الصريحة المناهضة لسلطة ولاية الفقيه، فيما يرى بعض المراقبين أن التيار المعتدل داخل الحرس الثوري قد يجد فيهم شركاء محتملين للحفاظ على الدولة وتجنّب الفوضى إذا ما انهار النظام القائم.
أما المعارضة في الخارج، فهي متباينة ومفتقدة للوحدة رغم حضورها الإعلامي الرمزي. حيث يتصدر التيار الملكي بقيادة ولي العهد السابق رضا بهلوي هذا المشهد من حيث النشاط والظهور، إذ يسعى لإحياء النظام الملكي، لكنه يواجه انتقادات واسعة تتعلق بضعف كاريزمته السياسية، خصوصًا عند مقارنته بوالده "الشاه"، وبفشله في بناء تحالفات متماسكة مع القوى المستقلة داخل إيران وخارجها.
كما تتهمه فصائل من الشعوب غير الفارسية- كالعرب والأكراد والبلوش- بتبنّي خطاب قومي يعيد إلى الأذهان مركزية الدولة قبل الثورة، ما يحدّ من قدرته على أن يكون صوتًا جامعًا للمعارضة، رغم وجود أصوات مؤيدة له في الداخل تظهر بين حين وآخر عبر مقاطع فيديو ترفع صوره وتطلق شعارات مؤيدة لعودة الملكية.
في المقابل، تعاني التيارات اليسارية من تباين حاد في رؤاها السياسية والاقتصادية مع الملكيين، الأمر الذي يحول دون تشكيل جبهة موحدة بين الطرفين. وتبقى منظمة "مجاهدي خلق"، محدودة التأثير داخليًا، إذ إنها لم تجدّد خطابها ولا قياداتها المرتبطة بعقلية الثمانينيات، مما أفقدها شعبيتها بين الجيل الإيراني الجديد. كما أن سجلها التاريخي في التحالف مع قوى خارجية، مثل نظام صدام حسين، لا يزال عبئًا ثقيلًا على سمعتها.
وفي خضم هذا المشهد المزدحم بالتناقضات، تبرز القوميات غير الفارسية- كالأكراد والعرب والأذريين والبلوش والتركمان- بوصفها عنصرًا حاسمًا في مستقبل إيران السياسي. فهذه المكونات تطالب منذ سنوات بنظامٍ فيدرالي أو حكمٍ ذاتي يضمن توزيعًا أكثر عدالة للسلطة والثروة، وترى أن هيمنة المركز في طهران لم تعد مقبولة. غير أنها تعاني في الوقت نفسه من ضعف التنسيق فيما بينها، فضلًا عن رفض بعض التيارات الإيرانية الأخرى التعاون معها، إذ تُتَّهم- خلافًا لشعاراتها المعلنة- بالسعي إلى تفكيك إيران عبر المطالبة بنظام لا مركزي وفيدرالي. ومع ذلك، يرى كثير من المحللين أن تجاهل مطالب هذه القوميات قد يؤدي إلى تصاعد التوتر وربما اندلاع صراعات مسلّحة جزئية، خصوصًا في حال حدوث فراغ سياسي بعد وفاة خامنئي.
تبدو إيران مقبلة على مرحلة انتقالية شديدة الحساسية، تتقاطع فيها أزمات الداخل مع ضغوط الخارج. فالنظام، رغم ما يمتلكه من أدوات القمع والسيطرة، يقف على أرض رخوة تُهدّده من الداخل أكثر مما تحميه.
لكن المعارضة أيضا ضعيفة التنظيم ومشتتة، ما يجعلها عاجزة حتى الآن عن تحويل الغضب الشعبي إلى مشروع سياسي جامع. ورغم أن رحيل خامنئي قد يكون الشرارة التي تفتح الباب أمام تحوّلٍ عميق، فإن طبيعة هذا التحوّل- إصلاحًا كان أم انهيارًا- ستتوقف على قدرة القوى المعارضة، في الداخل والخارج، على تجاوز انقساماتها وخلافاتها الجوهرية التي مكّنت النظام من الاستمرار حتى الآن.
أما الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، فيُرجَّح أن يلعب دورًا فاعلًا في مرحلة ما بعد خامنئي، ليس فقط من خلال أدوات الضغط والعقوبات، بل عبر مساعٍ سياسية تهدف إلى منع انزلاق إيران نحو صراع داخلي شامل. فهذه القوى تدرك أن تفجّر التناقضات بين التيارات الإيرانية- الإصلاحيين، والمحافظين، والمعارضة في الخارج بشقّيها الملكي والجمهوري، إضافةً إلى القوميات غير الفارسية- قد يُفضي إلى فوضى تهدد أمن المنطقة بأكملها. لذلك، يُتوقع أن تسعى العواصم الغربية بعد إدراكها لخطورة الموقف إلى تشجيع تقارب تدريجي بين أطراف المعارضة المختلفة، تمهيدًا لبناء صيغة تفاهم تضمن انتقالًا سياسيًا متدرجًا يحفظ الحد الأدنى من الاستقرار الداخلي. فالغرب، وإن كان يرحّب بإضعاف النظام القائم، إلا أنه لا يرغب في انهياره الكامل الذي قد يفتح الباب أمام فراغٍ أمني وانفلات داخلي يصعب احتواؤه.