التنمية المستدامة في إيران.. ضرورة للبقاء في عصر الأزمات البيئية

يسعى المجتمع الدولي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة بحلول عام 2030، بينما تواجه إيران سلسلة من الأزمات البيئية والبنيوية التي تهدد مستقبل البلاد على مختلف الأصعدة.
يسعى المجتمع الدولي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة بحلول عام 2030، بينما تواجه إيران سلسلة من الأزمات البيئية والبنيوية التي تهدد مستقبل البلاد على مختلف الأصعدة.
من استنزاف الموارد المائية وجفاف البحيرات إلى هشاشة المدن وتدهور البنى التحتية واقتصاد يعتمد على الموارد الأحفورية، تظهر مؤشرات واضحة على نموذج تنموي غير مستدام نتج عن عقود من السياسات قصيرة المدى والقرارات الارتجالية وغير العلمية.
أزمة المياه تهدد الأرض
تقف إيران اليوم على أعتاب ما يُعرف بـ"الإفلاس المائي"؛ وهو مصطلح يستخدمه الخبراء لوصف وضعٍ يتجاوز فيه استهلاك المياه قدرة الموارد المتجددة على التعويض. فقد أدّى الضخ المفرط من المياه الجوفية، وبناء السدود العديدة دون تقييم للأثر البيئي، ومشاريع نقل المياه بين الأحواض، والزراعة غير المتوازنة بدافع تحقيق الاكتفاء الذاتي، إلى ضغط هائل على الموارد المائية. ونتيجة لذلك، تواجه أكثر من 500 سهل في إيران انخفاضًا حادًا في مستوى المياه وهبوطًا في سطح الأرض. ويصف الخبراء هذه الظاهرة بأنها "زلزال صامت"، إذ بلغت معدلات الهبوط في مناطق مثل ورامين وأصفهان وسهل مشهد أضعاف المعدل العالمي، مما يهدد الطرق وخطوط الكهرباء والغاز والمياه والمباني.
مئات القرى في وسط إيران وشرقها تواجه نقصًا أو انعدامًا في مياه الشرب، وتتصاعد الهجرات المناخية. إن أزمة المياه اليوم لا تهدد الزراعة والأمن الغذائي فحسب، بل تمسّ الاستقرار الاجتماعي والأمن الوطني أيضًا.
التغير المناخي وغياب برنامج وطني
تُعدّ إيران من الدول الأكثر عرضة لتأثيرات التغير المناخي، مع ارتفاع متوسط درجات الحرارة، وتراجع تساقط الثلوج، وطول فترات الجفاف، وتزايد العواصف الترابية في الغرب والجنوب الشرقي. ومع ذلك، لا تزال إيران تفتقر إلى برنامج وطني للتكيّف مع تغيّر المناخ.
إن ضعف التواصل مع الهيئات العلمية الدولية مثل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ (IPCC)، وقلة البيانات المناخية الدقيقة، والنظرة الارتجالية بدل التخطيط الطويل الأمد، كلها عوامل قلّصت قدرة البلاد على مواجهة آثار التغير المناخي. وفي حين تستثمر دول عديدة في تقنيات حديثة كالزراعة الذكية وأنظمة التنبؤ بالفيضانات والجفاف، تواصل إيران تنفيذ سياسات مؤقتة وغير مستدامة.
مدن غير مستدامة: تحديات قابلية الحياة في الحواضر الكبرى
شهدت إيران خلال الخمسين عامًا الماضية أحد أسرع معدلات التحضر في العالم. غير أنّ هذا النمو السريع، في غياب بنية تحتية مناسبة وتخطيط حضري منسّق، أدى إلى نشوء مدن كبرى غير مستدامة. تواجه مدن مثل طهران ومشهد وأصفهان وأهواز مشكلات متشابهة: تلوث هواء شديد، نقص في الخدمات العامة، تدهور في النسيج العمراني، وتوسع في الأحياء العشوائية.
وفي ظلّ غياب إدارة حضرية فعّالة، تميل السياسات إلى تنفيذ مشاريع مكلفة واستعراضية بدلاً من تعزيز مدن أكثر مرونة وقابلية للعيش. وقد أدى ذلك إلى انخفاض حاد في جودة الحياة الحضرية في إيران مقارنة بالمؤشرات العالمية، وإلى تراجع قدرة المدن على الصمود أمام الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات.
ولا يزال النموذج الاقتصادي الإيراني قائمًا على استخراج الموارد الطبيعية واستهلاكها المفرط، وخصوصًا الطاقة الأحفورية، وهو نموذج يقلّل من كفاءة الموارد ويهدد البيئة والاستقرار الاقتصادي. فالقطاع الزراعي، رغم مساهمته المحدودة في الناتج المحلي الإجمالي، يستهلك أكثر من 90 في المائة من الموارد المائية في البلاد، وغالبًا لزراعة محاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه مثل الأرز والبطيخ والفستق في مناطق جافة وشحيحة المياه.
إن استمرار هذه السياسات، إلى جانب نظام دعم غير فعّال في مجالي الطاقة والمياه، يشجع على الاستهلاك المفرط وغير العادل للموارد، مما أدى إلى تدهور التربة وانخفاض المياه الجوفية وتفاقم التوترات البيئية. كما أن الاعتماد المفرط على النفط والغاز زاد من تلوث الهواء وانبعاثات الغازات الدفيئة، وأعاق التحول نحو اقتصاد أخضر وطاقة نظيفة.
وعلى خلاف العديد من دول المنطقة، لا تزال إيران تفتقر إلى استراتيجية وطنية شاملة وملزمة لتطوير الطاقة المتجددة. واستمرار هذا الوضع لن يؤدي فقط إلى تخلّف تكنولوجي، بل سيعيق أيضًا تحقيق التنمية المستدامة والعدالة بين الأجيال.
جذور الأزمات.. ضعف الحوكمة
إن المشكلات الراهنة في إيران لا تعود في الأساس إلى نقص الموارد الطبيعية، بل إلى ضعف بنيوي في منظومة الحوكمة. فقد أدت القرارات غير العلمية وقصيرة الأمد، وتهميش مؤسسات المجتمع المدني والخبراء، والتركيز المفرط على النمو الاقتصادي السريع دون مراعاة القدرات البيئية والاجتماعية، إلى إضعاف القدرات الإدارية للبلاد على تحقيق التنمية المستدامة.
هذا الضعف الهيكلي جعل السياسات الحكومية غالبًا متفرقة وارتجالية، مما أدى إلى تفاقم الأزمات البيئية والاجتماعية بدلًا من الحدّ منها. وبينما تمكنت دول أخرى بموارد محدودة من تحقيق التنمية المستدامة عبر الشفافية والمشاركة الشعبية والاستفادة من المعارف المحلية، لا تزال إيران أسيرة نهج مركزي ومشاريع قصيرة الأجل.
ولم تعد التنمية المستدامة في إيران خيارًا طوعيًا، بل ضرورة وجودية للبقاء والأمن الوطني. فاستمرار المسار الحالي – من جفاف البحيرات وهبوط الأرض إلى تلوث الهواء والهجرات المناخية وتفاقم عدم المساواة – يهدد الأسس البيئية والاقتصادية والبشرية للبلاد.
كما أن تجاوز هذه الأزمة يستدعي إعادة نظر شاملة في النموذج التنموي: بدءًا من إدارة الموارد المائية بشكل مستدام، ووقف الاستنزاف المفرط، وإحياء طبقات المياه الجوفية، وإصلاح أنماط الزراعة، وصولًا إلى وضع خطة وطنية للتكيّف مع تغيّر المناخ، وحماية النظم البيئية والبحيرات، وإعادة تأهيل البنى الحضرية المتدهورة، وتطوير النقل العام لزيادة مرونة المدن.
بالإضافة إلى أن إصلاح الهيكل الاقتصادي عبر تقليص الاعتماد على الوقود الأحفوري، والاستثمار في الطاقة المتجددة، وترشيد استهلاك الموارد، سيمهّد الطريق نحو تنمية خضراء ومستدامة.
إن إنقاذ إيران من دوّامة عدم الاستدامة لن يتحقق إلا بعزم وطني ومشاركة حقيقية من المجتمع المدني. فالعودة إلى مبادئ التنمية المستدامة واستعادة الحوكمة البيئية يشكلان السبيل لبناء مستقبل عادل ومستدام للجميع.