إيران في مفترق طرق.. النظام يسعى للبقاء والمجتمع يرغب في التجدد

تقف إيران اليوم عند مفترق بين التفكك وإعادة البناء؛ فالنظام القديم لم يسقط بالكامل بعد، والمجتمع الجديد لم يتشكل بعد بصورة كاملة.

تقف إيران اليوم عند مفترق بين التفكك وإعادة البناء؛ فالنظام القديم لم يسقط بالكامل بعد، والمجتمع الجديد لم يتشكل بعد بصورة كاملة.
من هذا المنظور، نجد أنفسنا في نوع من "المعبر الجماعي"؛ النظام السياسي يسعى للبقاء ويخضع لنوع من الصرامة الأمنية، وفي المقابل، المجتمع في طبقاته العميقة يخضع للتجدد من أجل إعادة البناء. السؤال الأساسي هو: إلى أين ستؤدي هاتان العمليتان المتقابلتان، وما هو المسار الذي ستتشكل عليه إيران في المستقبل؟
قدّم علماء الاجتماع صورتين متناقضتين حول الوضع الراهن في إيران. يعتقد فريق أن المجتمع في أضعف حالاته وأكثرها هشاشة. وبحسب هؤلاء، فإن رأس المال الاجتماعي في حالة تآكل؛ الثقة العامة تتراجع، الروابط الاجتماعية تضعف، والناس في عزلة فردية أكثر انشغالًا بمصالحهم الشخصية أو بقضايا البقاء بدلاً من المسؤولية الجماعية. وفق هذا المنظور، المجتمع أصبح خاويًا من الداخل وفقد قدرته على إعادة البناء.
لكن في المقابل، هناك نهج آخر يرى أن المجتمع الإيراني، حتى في ظل الضغوط والقيود، يخضع لإعادة بناء. قد يكون هذا البناء خفيًا وتدريجيًا، لكنه واقعي.
يمكن ملاحظة ذلك في تغير سلوك الجيل الجديد، وفي ظهور حركات ثقافية وحضرية جديدة، وفي نمو ما يُعرف بـ"اقتصاد التجربة"، وإعادة تعريف الفضاءات العامة.
المجتمع، بكل جراحه، يعيد خلق نفسه؛ تمامًا كما فعل في التاريخ المعاصر مرات عديدة، حينما استطاع في لحظات الأزمة إيجاد مسار جديد للحياة الاجتماعية.
النظام الإيراني.. سعي للبقاء وليس للتغيير
هيكل السلطة في النظام الإيراني يتغير أيضًا، لكن هذا التغيير لا يحمل طابع إعادة البناء. فالنظام يحاول من خلال ارتداء "قشرة" أكثر صلابة وتحكمًا وانغلاقًا، ضمان بقائه.
هذا النوع من التجدد ليس بهدف التجديد، بل بهدف الصمود في وضع طارئ. فعليًا، يتحول النظام السياسي إلى قشرة فارغة من المعنى؛ قشرة تحافظ على المظاهر والشعارات لكنها فقدت الاتصال العضوي بالمجتمع.
على عكس النظام، المجتمع مجبر على التجدد للبقاء. ومن هنا، تتواكب عمليتان متوازيتان ومتعارضتان؛ من الأعلى، السلطة تصبح أكثر صرامة، ومن الأسفل، الناس يصبحون أكثر ليونة ومرونة. هاتان الحركتان تتجهان في مسارات متعارضة، ويحددان معًا مستقبل إيران السياسي والاجتماعي.
يكفي النظر إلى الحياة اليومية في المدن الكبرى الإيرانية؛ من رموز اللباس إلى أسلوب الاستهلاك الثقافي، والموسيقى السرية، ولغة الجيل الشاب، وحضور النساء المتزايد في الفضاءات الاجتماعية. هذه العلامات تشير إلى تحول عميق.
طهران والمدن الأخرى تخضع لما يمكن تسميته بـ"إعادة بناء العلامة الثقافية" من دون قرار رسمي أو خطة رسمية. هذا التغيير ينبع من الأسفل ومن قلب المجتمع، وليس من مكاتب السلطة.
في طبقات المجتمع العميقة، هناك نوع من إعادة تعريف الهوية الفردية والجماعية. الجيل الأصغر يبحث عن قيمه ليس في امتلاك الأشياء، بل في "التجارب". هذا التغير يمثل تجددًا ثقافيًا للمجتمع الإيراني؛ تجدد لم تفهمه المؤسسات السياسية أو تتجاهله عمدًا.
المستقبل الممكن
المستقبل الإيراني، بمعناه العلمي والاجتماعي، ليس محكومًا. هناك عدة مسارات محتملة. إذا استطاع المجتمع تحقيق التماسك والربط بين طبقاته المختلفة، فإن احتمال حدوث "إعادة بناء ناعمة" قائم؛ تغيير تدريجي لكنه غير قابل للعودة. في هذا المسار، تلعب المؤسسات المدنية الناشئة، والشبكات الثقافية المستقلة، والفاعلية الاجتماعية للجيل الجديد دورًا محوريًا.
لكن إذا استمرت الضغوط السياسية والاقتصادية وانغلق المجتمع على ذاته، فهناك احتمال أن تحترق هذه القشرة الجديدة، ويصل الانحلال إلى مستوى لا رجعة فيه. في هذه الحالة، قد يستمر هيكل السلطة لبعض الوقت، لكنه سيصبح أكثر فراغًا من الداخل.
حتى في أسوأ السيناريوهات، يظل المجتمع الإيراني "خلاقًا". فالحياة في إيران، بشكلها الجزئي والمتناثر، مستمرة في المقاومة اليومية، وفي النقاشات الافتراضية، وفي الفن، واللغة، والدعابة، والإبداع. هذه هي "الإمكانية" التي يولد منها الأمل؛ أمل يتحقق من خلال الفعل والمشاركة الشعبية، وليس بالأوامر الصادرة من الأعلى.
لعبة جديدة بدأت
إذا كانت السلطة تجدد نفسها من أجل البقاء، فإن المجتمع يجدد نفسه من أجل البناء. هاتان العمليتان تتواجهان. من الأعلى، النظام يحاول تشديد حدوده؛ ومن الأسفل، الناس يسعون لكسر هذه الحدود. هذا الصراع سيحدد مستقبل إيران السياسي.
تجدد المجتمع، على عكس النظام، بدأ من الأسفل ومن صميم الحياة اليومية. هذا التحول هادئ لكنه جذري ولن يعود بسهولة. فهم هذه العملية يعني إدراك الحقيقة القائلة إن المجتمع الإيراني، حتى في صمته، يجدد نفسه. المستقبل الإيراني، إذا كان سيشرق، سيولد من هذا التجدد الاجتماعي، وليس من الوعود المتكررة للنواة الفاسدة للسلطة بقيادة خامنئي.