وبعد غياب عن الطقوس التقليدية في بيت المرشد، عاد خامنئي للظهور أمام الكاميرات؛ لكن ليس لمواساة الشعب أو الحديث عن التغيير، بل لقراءة انتصار الحرب من وجهة نظره، ورسم ما سماه "الاتحاد المقدس".
وفي خطابه هذا، أعلن أن النظام الإيراني مستعد لخوض أي حرب، مؤكدًا أن التفاوض مع أميركا ليس مطروحًا. وتحدث خامنئي عن "قبضة إيران" وعن هزيمة العدو، لكنه لم يأتِ على ذكر الخسائر البشرية والعسكرية، أو الفقر المتزايد بعد الحرب، أو الأزمات التي تنتظر البلاد. غير أن نهاية خطابه كانت بداية لموجة من ردود الأفعال التي كشفت مجددًا عن الانقسام داخل الحكم والهوة العميقة بين النظام والشعب.
إيران لن تكون طيّعة لأميركا
بعد أيام من الصمت والغياب عن الطقوس التقليدية في بيت المرشد، ظهر خامنئي أخيرًا أمام الكاميرات يوم الأحد 24 أغسطس (آب)، في ثالث خطاب له منذ انتهاء حرب الـ 12 يومًا مع إسرائيل.
المرشد الإيراني، الذي بدا مسرورًا لبقاء النظام بعد هذه الحرب، سعى لتقديمها دليلاً على استمرار "قوة" النظام.
وفي روايته لهجوم 13 يونيو (حزيران) الماضي قال: "الأعداء حرّضوا الكيان الصهيوني (إسرائيل) ليهاجم إيران، معتقدين أنهم بذلك سينهون النظام الإيراني"، لكنه أضاف أن رد إيران قلب كل الحسابات: "لم يتخيلوا أن إيران ستسدد لهم ضربة قاصمة تجعلهم يندمون".
وادعى خامنئي أيضًا أن عملاء أميركا عقدوا اجتماعًا في أوروبا بعد يوم واحد من الهجوم، لبحث "بديل للنظام الإيراني"، بل وحددوا "ملكًا لمستقبل إيران". وأكد أن "الشعب الإيراني" تمكن من الصمود أمام "مقاصدهم الدنيئة والخبيثة".
كما وصف عداء واشنطن للنظام الإيراني بأنه "متجذر منذ 45 عامًا"، مضيفًا أن جميع الإدارات الأميركية، بغض النظر عن الحزب أو الرئيس، اتبعت المسار نفسه. وأشار إلى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من دون أن يسميه قائلاً: "هذا الرجل الذي يحكم اليوم أفشى السر... قال إن مشكلتنا مع إيران ومع الشعب الإيراني هي أن إيران لا تأتمر بأوامر أميركا".
ووصف المرشد الإيراني المطالبين داخليًا بالتفاوض المباشر مع أميركا بأنهم "سطحيون"، مضيفًا: "هذه مسألة غير قابلة للحل". وكتب موقع المرشد بعد الخطاب: "لم يكن أي تفاوض قادرًا على إنهاء العداء الجوهري لأميركا مع إيران، ولن يكون".
وأكد خامنئي ضرورة الوحدة الداخلية، محذرًا: "هذا الاتحاد المقدس، هذا الاجتماع العظيم، وهذه الدرع الفولاذية من قلوب وإرادات الناس، يجب ألا يتعرض للخدش". وأضاف: "اليوم، بحمد الله، البلاد موحدة، وهذا الاتحاد ضد مصلحتهم". مع ذلك، أشار إلى أن "عملاء الصهيونية وأميركا يحاولون إثارة الخلاف داخل البلاد".
كما أشاد بالسلطات الثلاث وبالرئيس، داعيًا الشعب إلى دعمهم، مؤكدًا أن الأعداء يسعون لإحداث شرخ، مشيرًا إلى أن الخلاف في وجهات النظر أمر طبيعي، لكن "تقويض أسس النظام الإيراني مطلب العدو".
أما ختام كلماته فخصصه لإسرائيل، واصفًا إياها بأنها "أبغض حكومة في العالم"، واعتبر الجرائم الأخيرة في غزة "غير مسبوقة في التاريخ": "قتلوا الأطفال عطشًا وجوعًا، وأطلقوا الرصاص على أطفال جاءوا للحصول على طعام". واختتم قائلاً إنه مستعد للحرب: "نحن بالطبع مستعدون لكل ما قد يُقدِم عليه النظام الإيراني، ولكل الاحتمالات".
صمت أمام العقوبات والأزمة الاقتصادية
في حديثه الذي شبّه فيه إسرائيل مجددًا بالسرطان الذي يجب استئصاله، ركّز خامنئي على المقاومة، لكنه لم يذكر سوى اليمن من بين الدول والقوى التابعة لمحور المقاومة. وقال: "ما يقوم به الشعب اليمني الشجاع اليوم عمل صحيح". في المقابل، يواجه "حزب الله" في لبنان ضغوطًا شديدة لنزع سلاحه، بينما يظل مصير "الحشد الشعبي" في العراق غير محسوم، ولم تفلح مساعي إيران لدمج هذه القوة في الجيش حتى الآن.
خطاب خامنئي شكّل صفعة واضحة لكل القوى السياسية الساعية للسلام عبر التفاوض مع أميركا؛ لكنه تجاهل الأزمة الكبرى التي تواجه إيران، وهي عودة عقوبات الأمم المتحدة. كما لزم الصمت إزاء احتمال تفعيل "آلية "الزناد، التي يبدو أن الأوروبيين يميلون إلى إنفاذها.
ويأتي ذلك في وقت يشغل فيه هذا الموضوع المشهد السياسي الإيراني، وسط انقسام: فبعض المسؤولين يرون أن عودة العقوبات لن تغيّر من الوضع القائم، فيما تكشف تقارير عن قلق لدى الأجهزة الأمنية من تفاقم البطالة وتصاعد السخط الشعبي إذا ما فُعّلت الآلية. ويحذر خبراء الاقتصاد من تراجع أكبر في قيمة العملة الإيرانية، وارتفاع معدلات التضخم، وغلاء السلع المستوردة نتيجة العقوبات.
لكن مشكلة إيران لا تقتصر على العقوبات؛ فقد نشرت صحيفة "شرق" مؤخرًا تقريرين صادمين يصوّران آثار الفقر في المدارس. هذه التقارير تحدثت عن سوء تغذية التلاميذ وانعكاساته على حياتهم، مؤكدة أن بعض الأطفال يُغمى عليهم في الطوابير بسبب الجوع، في مؤشر واضح على تفاقم الفقر في المجتمع.
وفي الوقت نفسه، تكشف البيانات الرسمية عن ارتفاع حاد في معدلات التضخم. فقد بلغ معدل التضخم السنوي في يوليو (تموز) 2025 مقارنةً بيوليو 2024 نسبة 41.2 في المائة. لكن هذه المرة، لم تجد معاناة الناس تحت وطأة الغلاء مكانًا في خطاب خامنئي. فقد اكتفى بسردية تصور "شعبًا صامدًا ومنتصرًا"، فيما يغدو الكثيرون أفقر يومًا بعد يوم.
ولم يشر المرشد الإيراني في كلماته إلى الخسائر والتضحيات، التي خلّفتها حرب الـ 12 يومًا. بل سعى إلى تقديم هجوم إسرائيل لا ككارثة إنسانية، بل كفرصة لإعادة تصوير "الوحدة الوطنية"، مقلّصًا الرواية القاسية للحرب إلى مجرد عرض للقوة العسكرية للنظام الإيراني. كما التزم الصمت بشأن المستقبل، ولم يذكر شيئًا عن الطريق الذي ينتظر النظام والشعب في إيران.
من التوصية للمغردين إلى الخوف من عودة "البهلويين"
كتب الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، بعد خطاب خامنئي: "لنصغِ بكل جوارحنا إلى توصيته بالوحدة والتماسك الوطني". في هذا النص القصير، استخدم بزشكيان وسم "#الاتحاد_المقدس" تمامًا كما في التغريدة التي نُشرت عن خامنئي، وهو ما لاقى استحسان الكثير من مؤيدي النظام. كتب أحد المستخدمين: "كلمة السر (الاتحاد المقدس) هي السحر المضاد لاتحاد أميركا وإسرائيل وأوروبا. بلا شك سنكسرهم بهذا الاتحاد".
المواقف السياسية تجاه خطاب خامنئي تباينت. فقد قال عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام، سعيد جليلي، ومنافس بزشكيان في الانتخابات الرئاسية السابقة: "علينا جميعنا واجب مساعدة الحكومة حتى تنجح وتتجاوز النواقص".
أما الرئيس السابق لـ "مركز الدراسات الاستراتيجية"، حسام الدين آشنا، فأكد أن "الشعب والحكومة والقوات المسلحة يجب أن يحافظوا على الاتحاد المقدس حول قيادة القائد العام". ووجّه رسالة إلى المتشددين في البرلمان قائلًا: "أرادوا استجوابًا، لكنهم مؤقتًا استُجوبوا عبر مكبر الصوت؛ ريثما يحين الوقت لاحقًا".
وفي المقابل، أوضح النائب المتشدد في البرلمان الإيراني، حميد رسايي، الذي كان يسعى لاستجواب بزشكيان، أن تصريحات خامنئي لا تعني اعتبار أي انتقاد للحكومة أو مواقف الرئيس "عداءً للولاية". وذكّر بأن المرشد الإيراني نفسه لطالما قدّم، إلى جانب دعمه للحكومات، انتقادات صريحة لقراراتها.
ويرى كثير من أنصار حزب الله اللبناني أن خطاب المرشد كان حاسمًا بالنسبة لهم؛ حيث كتب أحدهم: "تعدد الآراء وطرح الأفكار الجديدة لا إشكال فيه، لكن لا ينبغي تقويض أسس الثورة. بهذه الكلمات، أصبح موقف كل الفاعلين واضحًا".
وغرّد آخر: "من معجزات المرشد أن الذين كانوا خلال حرب الـ 12 يومًا يبحثون عن خلافة حسن روحاني، تحولوا فجأة إلى موالين للولاية اليوم". وأضاف مؤيد آخر: "بخطاب واحد، أحبط مؤامرات العدو، ورمم الشرخ بين التيارات السياسية، ومنح الاتحاد الشعبي الإيراني نفسًا جديدًا".
أما صحيفة "هم ميهن" الإيرانية، ففي افتتاحيتها علّقت بنبرة نقدية قائلة: "إن مشكلة البلاد ليست التعددية في الأصوات، بل غياب سياسة رسمية واضحة وشفافة". وأكد الكاتب أن الوحدة الحقيقية لا تتحقق إلا حين تكون السياسة المعلنة للنظام علنية وقابلة للفهم، لا نتيجة قرارات تتخذ خلف الأبواب المغلقة.
وفي المقابل، رأت صحيفة "كيهان"، في مقال كتبه محمد إيماني، أن خطاب خامنئي مثّل "إفشال المرحلة الثانية من عملية العدو بعد هزيمته في حرب الـ 12 يومًا". وزعم أن وعد بنيامين نتنياهو بإنهاء إيران في 72 ساعة انتهى بالفشل، وأن أميركا وإسرائيل لم يحققا أهدافهما. وأضاف الكاتب أن خامنئي، بتأكيده على "الاتحاد المقدس" ودعمه للرئيس، حال دون انقسام داخلي ومنع إعادة إحياء خط التفاوض مع أميركا، واصفًا هذا المسار بأنه بلا جدوى و"مهين".
ومن جهتهم، فسّر أنصار عودة النظام الملكي البهلوي خطاب خامنئي على أنه دليل خوف. وكتب أحدهم: "اليوم، خامنئي نفسه قدّم الأمير رضا بهلوي كزعيم معارضة للنظام الإيراني والبديل الوحيد له، ووصفه بالملك!" وأكد آخر: "اعترف خامنئي بأن التهديد الحقيقي الوحيد لنظامه هو رضا شاه الثاني والنظام الملكي". وأشار آخرون إلى أن المرشد الإيراني يعيش في "ذعر" من عودة البهلويين.
لكن ردود الفعل لم تتوقف عند ذلك. ففي وسائل التواصل الاجتماعي، استمر كثيرون في مخاطبة خامنئي بلغة ساخرة ومهينة، واصفين إياه بأنه "فأر" لم يخرج من جحره إلا بضع دقائق ليلقي خطابًا، ثم يعود للاختفاء. وانتشر أيضًا جدل حول إشارته إلى نشاط مستخدمي "تويتر".
وعلّق البعض بالقول: "تويتر (إكس) محجوب، لكن المرشد الإيراني يقترح على المستخدمين ما الذي عليهم أن يغردوه". فيما رأى آخرون أن ذلك يكشف الأهمية التي يوليها لهذه المنصة، وأن وجود أجهزة النظام الإلكتروني هناك يفسر حضوره واهتمامه الواضح بها.