ويعتبر بعض المسؤولين في النظام الإيراني التفاوض في الظروف الراهنة بمثابة استسلام وتراجع، ويرون أن السبيل الوحيد للحفاظ على النظام هو الصمود والتحضير لمواجهة عسكرية.
وفي المقابل، هناك شخصيات مثل بزشكيان صرحت بوضوح بأن الحل في النهاية هو التفاوض، لأن الحرب لن تحقق أي مكاسب، ولأن القدرات العسكرية للبلاد محدودة في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل.
وقوبلت تصريحات بزشكيان، خلال لقائه مديري وسائل الإعلام المحلية، برد فعل شديد من وسائل الإعلام التابعة للحرس الثوري الإيراني، مثل وكالة "تسنيم"، التي انتقدت بشدة هذه المواقف، وأكدت أن تصريحات من هذا النوع، رغم إعلان ولائها الظاهري للمرشد، تبعث برسائل ضعف للأعداء.
أكثر ما أثار غضب الحرس الثوري هو هذا الجزء من حديث بزشكيان:"إذا لم نتفاوض، فما الذي سنفعله؟ حرب؟ حسنًا، إذا ضربونا، ماذا بعد؟ سنعيد البناء لكي يضربونا مجددًا؟"
وفي الواقع، كان هذا تحليلًا ضمنيًا من بزشكيان بأن النظام الإيراني لا يمتلك القدرات العسكرية الكافية لمواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، وأن خوض حرب جديدة سيؤدي إلى الانهيار.
وتعكس هذه التصريحات بوضوح وجود شرخ في أعلى مستويات صناعة القرار داخل النظام: من جهة، الحرس الثوري يدفع نحو المواجهة والصدام، ومن جهة أخرى، الحكومة تحتاج إلى الاستقرار والموارد المالية لإدارة شؤون البلاد.
مصالح الحرس الثوري الإيراني في استمرار الأزمة
يعارض الحرس الثوري الإيراني، لأسباب بنيوية واقتصادية، التفاوض. فجزء كبير من مصالحه قائم على ظروف العقوبات والالتفاف عليها. فقد لعب خلال السنوات الماضية عمليًا دور شركة النفط الوطنية والبنك المركزي في بيع النفط وتحصيل عائداته.
وهذه الشبكات المالية والنفطية والتجارية الضخمة، تحت شعار "الالتفاف على العقوبات"، جنت أرباحًا هائلة لصالح قادة الحرس الثوري والمقربين منهم. أما التفاوض ورفع العقوبات فسيعنيان انتهاء أو تقليص هذه الامتيازات.
وفوق ذلك، فإن ظروف الأزمة والحرب تمنح الحرس الثوري الإيراني ميزانيات ضخمة وصلاحيات واسعة ودورًا مباشرًا في صنع القرار، كما حدث بعد الحرب الأخيرة، حيث تم تخصيص ملياري يورو إضافية للقوات المسلحة، ذهب معظمها إلى الحرس الثوري.
موقف الحكومة والضغط المزدوج
في المقابل، تواجه حكومة بزشكيان واقع إدارة البلاد اليومي: تراجع حاد في عائدات النفط، وبيع النفط للصين بطرق غير رسمية، وخطر عودة عقوبات الأمم المتحدة، وفوضى اقتصادية.
وإذا لم تُستأنف المفاوضات وعاد تفعيل "آلية الزناد" وما سبستتبعه من عقوبات مجلس الأمن، فسوف تتقلص قدرة الحكومة على توفير السلع الأساسية والطاقة والخدمات العامة أكثر فأكثر. فالحكومة تحتاج إلى متنفس اقتصادي، بينما ستوجه الحرب صدمة جديدة لها.
حرب إعلامية
في الأسابيع الأخيرة، اندلعت حرب إعلامية بين الحكومة الإيرانية والحرس الثوري. وسائل إعلام الحرس، وعلى رأسها وكالة "تسنيم"، وصفت المفاوضات الأخيرة بأنها خدعة من أميركا وإسرائيل، لكن الحكومة خرجت من موقف الدفاع وبدأت بهجوم مضاد عبر مقابلات وبيانات وخطابات، محملة الحرس الثوري مسؤولية الأوضاع.
وفي مقابلة مع وزير الخارجية، عباس عراقجي، حين اتهمه صحافي مقرب من الحرس الثوري بأن الدبلوماسيين تعرضوا للخداع، رد قائلًا:"لقد قمنا بعملنا الدبلوماسي؛ هؤلاء العسكريون هم من كان ينبغي ألا يُخدعوا، وكان عليهم القيام بعملهم بشكل صحيح".
وهذا الرد كان إشارة واضحة إلى الانقسام العميق بين الحكومة الإيرانية والحرس الثوري.
كما أن النائب في البرلمان الإيراني، علاء الدين بروجردي، تحدث بصراحة عن ضعف الدفاعات الجوية الإيرانية أمام هجمات إسرائيل، وهو مستوى من النقد العلني للقيادات العسكرية لم يسبق له مثيل، ويبدو أنه يعكس اعترافًا ضمنيًا بالفشل داخل النظام.
تحول محتمل في موقف المرشد
السؤال الأهم الآن: ما هو موقف المرشد علي خامنئي في هذه المعادلة؟ بعض المراقبين يرون أن تعيين علي لاريجاني أمينًا للمجلس الأعلى للأمن القومي مؤشر على رغبة خامنئي في العودة إلى طاولة المفاوضات، رغم عدم وجود دلائل واضحة حتى الآن.
وأكد بزشكيان، في تصريحاته الأخيرة، أن كل خطواته منسقة مع "القائد" (أي خامنئي). وإذا كان هذا صحيحًا، فإن موقفه المؤيد للتفاوض قد يعكس تغييرًا تكتيكيًا في رؤية المرشد.
هدف المفاوضات: تكتيك لشراء الوقت لا تغيير استراتيجي
مع ذلك، حتى إذا عاد النظام الإيراني إلى طاولة المفاوضات، من المستبعد أن يكون هذا التغيير استراتيجيًا أو جوهريًا.
ويبدو أن الهدف الرئيس من أي مفاوضات محتملة هو كسب الوقت لتجاوز فترة رئاسة دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأميركية، وحكومة بنيامين نتنياهو، في إسرائيل، ولتفادي اجتماع ثلاثة مخاطر في وقت واحد: عودة عقوبات مجلس الأمن، واحتمال هجوم إسرائيلي، واندلاع انتفاضة شعبية جديدة.
وهذا التزامن قد يخلق عاصفة سياسية وأمنية في الخريف القادم تهدد بقاء النظام الإيراني بشكل جدي، ومن غير المرجح أن تغفل أميركا وأوروبا، وخاصة إسرائيل، عن هذه اللعبة.
الخلاصة: النظام الإيراني أمام خيار مصيري
الآن النظام الإيراني أمام لحظة حساسة: إما أن يتخلى عن بعض سياساته السابقة، ويتجه إلى المفاوضات لتخفيف الضغوط الخارجية، وهو ما يعني عمليًا قبول التنازل، أو يختار طريق الحرب ويتحمل خطر السقوط. ويقف على أعتاب قرار مصيري؛ قرار سيحدد ليس فقط مستقبل المفاوضات، بل مصير النظام بأكمله.