كيف يمكن للمجتمع والجماعات السياسية في إيران تحويل الكارثة إلى أرضية لفعل جماعي؟

عطا محامد
عطا محامد

باحث في العلوم السياسية

في إيران، نادراً ما تكون الكوارث عشوائية. يمكننا أن ننظر إلى الكوارث في هذا النظام باعتبارها أكثر من مجرد موت ودمار؛ فهي في الحقيقة لحظات تكشف عن كيفية عمل السلطة.

وما يهم في مثل هذه اللحظات ليس مجرد نقل المعلومات، بل قدرة المجتمع والجماعات السياسية على صناعة السردية.

السردية التي تُنقذ الكارثة من النسيان والإنكار، وتحولها إلى أساس للفعل الجماعي، للمطالبة، ولإعادة بناء أفق السياسة.

ما تسعى إيران إلى فعله بعد كل كارثة هو تقديمها كحادثة عابرة، أو خطأ بشري، أو واقعة محدودة. لكن في الحقيقة، هذه الكوارث هي نتاج نظام يُنتج الكوارث بشكل منهجي؛ نظام قائم على الفساد البنيوي، والقصور المؤسسي، وهيمنة العناصر العسكرية، والحذف المنهجي لنُظم الإنذار، وقمع آليات المحاسبة. في هذا النظام، الموت والدمار ليسا استثناءً، بل نتيجة طبيعية لنمط الحكم.

حادثة ميناء رجائي واحدة من هذه اللحظات؛ كارثة كان من الممكن تفاديها، لو لم يكن النظام السياسي قد جنّد كل أركانه في خدمة الفساد وانعدام الشفافية. وعليه، ما حدث لم يكن مجرد حادثة، بل تجلٍّ لتشابك المؤسسات غير الخاضعة للمساءلة، والأولويات الأمنية، والاقتصاد الريعي.

جزء من الميناء كان تحت إشراف مؤسسة "المستضعفين"، والبضائع المخزنة كانت تابعة لمؤسسات مرتبطة بالحرس الثوري، وبعض موظفي الجمارك ساهموا في خلق مسار غير شفاف في التسجيل والحفظ.

وبالإضافة إلى ذلك، تشير التقارير غير الرسمية إلى أن الانفجار ربما كان ناجماً عن وقود صلب للصواريخ، ما يكشف عن العلاقة المباشرة بين الهيكل العسكري والسياسات العسكرية.

هذا الترابط البنيوي بين القوة الاقتصادية-العسكرية والتهور في إدارة الأزمات يُظهر بوضوح كيف يكون البناء السياسي ذاته مولداً للكوارث.

قوة السرد واستعادة الرموز

ما حدث في ميناء رجائي تم التستر عليه بشكل منظّم. لم يُسمح لوزارة الصحة بنشر إحصائيات دقيقة للضحايا، وطُلب من الصحفيين المحليين عدم نشر أي تقارير حول الحادثة. حتى بعض العائلات المفجوعة لا تعرف حقيقة ما يجري.

هذا الصمت المفروض هو جزء من المشروع المعروف للنظام الإيراني في التعامل مع الأزمات: الإنكار، ومحو الشهود، وتثبيت سردية تُبعد اللوم عن البنية السياسية.

وعندما تكون المسألة سياسية، أي عندما يسلب نظام طهران حق الحياة من جزء من الشعب عبر الكارثة، لا يمكن أن يكون الرد إنسانياً أو عاطفياً فقط؛ بل يجب أن يكون رداً سياسياً، متماسكاً، ويركّز على المستقبل.

هذا الرد يجب أن يُقدَّم في إطار سردية موثّقة، مقنعة، وهادفة؛ سردية لا تكتفي بالاعتراف بأصوات المهمشين والناجين، بل تُحدّد الجذور البنيوية للكارثة: مؤسسات غير خاضعة للمحاسبة، موازنات أمنية، وتجاهل منهجي لنظم الإنذار والرقابة.

في هذا السياق، تلعب وسائل الإعلام المستقلة، والناشطون الاجتماعيون، وحتى مستخدمو شبكات التواصل الاجتماعي، أدواراً مختلفة لكن متكاملة. ومع ذلك، تقع المسؤولية الأساسية على عاتق الإعلام، خصوصاً الإعلام المعارض للنظام السياسي، والذي يجب أن يؤدي دوراً يتجاوز مجرد عكس الغضب الشعبي.

ينبغي أن يتحول الإعلام إلى وسائط تُحوّل الكارثة إلى ذاكرة حيّة وذات مغزى. فإلى جانب إيصال المعلومات بدقة، تقع على عاتقه مسؤولية إعطاء معنى للحدث، وكشف أبعاده البنيوية، ومقاومة السرد الرسمي.

من خلال تجميع الأخبار في ملف مستقل، يمكن لهذه الوسائل أن تعمل بشكل أفضل من القوى المعارضة المتفرقة، لبناء سردية سياسية توضّح كيفية فهمنا للكارثة، والبنية، والضحايا، والمسؤولية. لأن أي سردية تجعل العلاقة بين الحياة اليومية وبنية السلطة مفهومة، تدخل عملياً إلى ميدان السياسة.

إذا استطاعت وسائل الإعلام والمعارضون السياسيون للنظام تصوير كارثة ميناء رجائي في كليّتها كبنية متكاملة من تقصيرات نظام إيران وجهوده في حذف وقمع العناصر المختلفة بعد الكارثة، فإنهم لا يكشفون فقط الزيف في الرواية الرسمية، بل يسحبون أيضاً سلطة السرد من يد الجهاز الرسمي.

في غياب هذه السردية، لا تنشأ غالباً "نحن" جماعية تقف ضد المسؤولين عن الكارثة. أما السرد، فيمكنه أن يربط بين الضحايا والمفجوعين المختلفين، وأن يفضح أبعاد الظلم الإنساني والطبيعي الذي تمارسه السلطة، ويثير تعاطفاً أكبر بين القوى السياسية.

في الحقيقة، إذا تم سرد الكارثة بشكل صحيح، يمكن أن تكون لحظة صحوة ووعي جماعي؛ نقطة لربط التجارب المتفرقة، لبناء تضامنات جديدة، وفي النهاية، لإعادة بناء الفضاء الرمزي للسياسة.

من الحداد إلى السياسة.. من الذاكرة إلى السلطة

يجب أن يكون حضور الإعلام، وبشكل خاص القوى السياسية، في هذا المجال موجّهاً نحو بناء سردية بديلة، موثّقة، ومتماسكة؛ سردية إذا ما صيغت بدقة واستمرارية، لا تُعيق فقط تثبيت الرواية الرسمية، بل تُمكن من تقديم بديل شرعي على الصعيد السردي، والأخلاقي، بل والتاريخي للنظام الرسمي في إنتاج المعنى.

مثل هذه السردية، المنبثقة من عمق الكارثة، توفّر فهماً جديداً للوضع، وتفتح الأفق أمام مطالبات بالمحاسبة، وفرصاً لبناء آفاق سياسية جماعية جديدة.

لحظات الكارثة الجماعية، خصوصاً في البلدان التي تعاني من الاستبداد، والتي تُظهر في طياتها أيضاً انقطاعاً سياسياً، هي لحظات يكتشف فيها جزء من الناس أنفسهم ليس فقط كمعترضين، بل كفاعلين خلاقين؛ أناس يسعون لابتكار أشكال جديدة من السياسة، والمعنى، والتضامن. الكارثة، إذا تم سردها بمسؤولية ودقة، يمكن أن تكون بداية لهذه اللحظة؛ اللحظة التي يُستحضر فيها "نحن" الجمعية الضائعة، ويعاد تشكيلها.

في مواجهة مشروع النسيان الذي تفرضه السلطة، ما يهم ليس فقط فضح المعلومات أو نشرها، بل خلق سرديات توفّر ذاكرة مقاومة، تفسيراً بنيوياً، وأفقاً متخيّلاً للفعل. ولإنتاج هذه الذاكرة، لا بد من التأكيد على أهمية الأرشفة.

الأرشفة توفّر إمكانية الوصول العلني والمنظّم إلى المعلومات، وتُظهر الجوانب الخفية من مزاعم النظام من خلال توضيح تناقضاته، وتكشف بشكل أكبر محاولات النظام الإيراني حذف مسؤوليته في الكارثة.

من جهة أخرى، يمكن للمعارضين، من خلال امتلاكهم لهذه المعلومات وذاكرة دقيقة بالتفاصيل، أن يواجهوا رواية النظام، ويُضعفوا قدرته على خلق الشكوك في الرأي العام.

تتجلى ضرورة هذا الأمر في أنّ التجربة خلال السنوات الأخيرة أظهرت أن لا المعارضة ولا معظم وسائل الإعلام المناهضة للنظام الإيراني قد التزمت بعد بمسؤولياتها بشكل منظم. فالمعارضة غالباً ما تلجأ إلى العموميات، ولا تستطيع تحويل التقارير المتفرقة إلى سردية شاملة، هادفة وفعالة.

ومن جهة أخرى، فإن العديد من وسائل الإعلام المستقلة، رغم سعيها لعكس الواقع، تدفن الأحداث بين سيل الأخبار، ولا تطوّر تحليلاً ممنهجاً ومتابعة دقيقة للأحداث الكبرى مثل كارثة ميناء رجائي. هذا التقصير المشترك هو فرصة تُمنح يومياً لسياسات النسيان التي يتبناها نظام طهران.