هذا التركيز الجديد يأتي بالتنسيق الوثيق مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بهدف إنهاء الحرب، واستعادة الرهائن، وضمان أمن إسرائيل على المدى البعيد.
وبحسب "جيروزالِم بوست"، فإن هذا التحوّل السريع من طهران إلى غزة ليس مجرد تعديل تكتيكي، بل يعكس واقعًا سياسيًا وعسكريًا ميدانيًا يفرض ثقله على الرأي العام الإسرائيلي.
كان نتنياهو، قبل أسبوعين فقط، في ذروة نصر غير مسبوق. فعملية "صعود الأسود" التي نُفذت في اللحظات الأخيرة بالتنسيق مع أميركا ضد المنشآت النووية الإيرانية، أعادت تفعيل قوة الردع الإسرائيلية، وحققت موجة من الثناء الدولي، ومنحت نتنياهو لحظة رمزية من القوة داخليًا وعلى الساحة العالمية.
إلا أن زيارته الأخيرة لواشنطن ولقاءاته المتكررة مع دونالد ترامب كشفت بوضوح عن مدى سرعة تغيّر مركز الثقل السياسي في إسرائيل خلال أيام معدودة.
وبحسب الصحيفة، فإن رصد تغطيات الإعلام الإسرائيلي يؤكد هذا التحول في الأولويات: فالتقارير والتحليلات المتعلقة بحرب غزة باتت تفوق بكثير تلك الخاصة بالعملية ضد إيران.
في اللقاء الثاني بين نتنياهو وترامب خلال 24 ساعة خصصت لجلسة بالكامل تقريبًا لمناقشة الحرب في غزة، ومصير الرهائن، وإمكانية التوصل إلى وقف إطلاق نار. بينما تم تهميش مواضيع مثل البرنامج النووي الإيراني أو هندسة الأمن الإقليمي.
تبدّل الأولويات وواقع الميدان
تقول "جيروزالِم بوست" إن العودة إلى غزة فرضتها الظروف الميدانية القاسية. ففي يوم الإثنين وحده، قُتل خمسة جنود إسرائيليين آخرين في غزة، ليرتفع عدد قتلى الجيش الإسرائيلي منذ انتهاء العملية ضد إيران إلى 17 جنديًا.
هذه الأرقام أعادت تركيز الرأي العام الإسرائيلي على التكلفة البشرية للحرب، وعلى مصير أكثر من 50 رهينة يُعتقد أن 20 منهم على الأقل لا يزالون على قيد الحياة.
ورغم أن الضربة الناجحة ضد المنشآت النووية الإيرانية كانت إنجازًا مهمًا لنتنياهو، فإنها لم تُبدّد الألم أو الغموض أو الاستنزاف المرتبط بحرب غزة.
فبعكس العملية ضد إيران، التي كانت محددة الأهداف وانتهت بنجاح، لا تزال حرب غزة مستمرة بلا أفق واضح لنهايتها.
وفي اليوم نفسه الذي أُعلن فيه وقف إطلاق النار في 24 يونيو (حزيران)، استيقظت البلاد على خبر مقتل سبعة جنود آخرين في خانيونس؛ ما يثبت أن هذه الحرب لم تخرج بعد من وعي ووجدان الإسرائيليين.
حذر سياسي وتوازن ائتلافي ومعركة مستمرة
تشير الصحيفة إلى أن نتنياهو يدرك تمامًا المخاطر السياسية المرتبطة بمفاوضات وقف إطلاق النار. فأي إشارة إلى اتفاق يستند إلى الإفراج عن الرهائن قد تثير رد فعل غاضب من التيارات المتطرفة في حكومته، مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، ما قد يهدد تماسك ائتلافه.
لذلك، تُجرى المفاوضات في واشنطن بأقصى درجات الحذر وخلف أبواب مغلقة. وفي خطابه يوم الثلاثاء، حاول نتنياهو الحفاظ على توازن بين التمسك بأهداف الحرب والانفتاح على الدبلوماسية.
وقال: "اليوم هو يوم صعب على إسرائيل. فقدنا خمسة من أبطال جيشنا. الأمة حزينة ومفجوعة. لكننا عازمون على إنهاء مهمتنا: تحرير الرهائن، القضاء التام على حماس، وضمان ألا تكون غزة تهديدًا لإسرائيل مجددًا".
وأضاف: "لدينا استراتيجية لا نكشفها بالكامل. بعض الخطوات ستكون مؤلمة، لكن النتيجة النهائية ستكون هزيمة كاملة لحماس وعودة الرهائن. عملنا لم ينتهِ بعد".
هل تتقاطع أهداف ترامب ونتنياهو؟
ومع ذلك، تلفت "جيروزالِم بوست" إلى وجود سؤال جوهري لا يزال مطروحًا بين المحللين والمراقبين: هل يتطابق هدف نتنياهو المعلن بتدمير حماس كليًا، مع جهود ترامب الساعية إلى التوصل إلى اتفاق ووقف إطلاق نار في غزة؟ أم أن الرجلين يسلكان مسارين مختلفين وربما متناقضين؟
فرغم نجاح العملية ضد إيران، تبقى الحرب في غزة مشتعلة، بل وتزداد دموية يومًا بعد يوم. ويؤكد التقرير أن مقتل خمسة جنود في يوم واحد يُظهر أن المعركة الحقيقية لا تدور في قاعات التفاوض بواشنطن، بل في أزقة وأنفاق غزة المدمّرة.
في ختام التقرير، تؤكد "جيروزالِم بوست" أن حرب غزة، حتى بعد نجاح عملية "صعود الأسود" ضد النظام الإيراني، لا تزال تحتل صدارة أولويات الرأي العام الإسرائيلي.
هذه الحرب ما زالت حاضرة في الرهائن المحتجزين تحت الأرض، في الجنود المقاتلين في رفح وخانيونس، وفي الحزن الذي يُخيم على المجتمع الإسرائيلي.
حتى أكثر العمليات العسكرية نجاحًا لم تُزل الغمّ والحيرة من قلوب الإسرائيليين. فكل صباح يأتي حاملاً الخشية من أن تكون العبارة المُفزعة "مسموح بالنشر" بداية لنبأ دموي جديد من جبهة غزة.
وطالما بقي هذا الخوف حيًا في النفوس، فإن الحرب- حتى بعد الضربة لإيران- لم تنتهِ بعد.