وأضافت المجلة الأميركية أن الجدل الإعلامي الأخير حول حجم الأضرار التي لحقت المراكز الرئيسة الثلاثة للبرنامج النووي الإيراني: "أصفهان، فوردو، ونطنز" كان مثالاً على هذا الواقع. وقد بدأ هذا الجدل عندما أعلن ترامب، بعد ساعات فقط من الضربات الجوية الأميركية، أن المنشآت الإيرانية "دُمّرت بالكامل".
وفي الوقت ذاته، سُرّب تقرير من وكالة استخبارات الدفاع الأميركية (DIA) إلى شبكة "CNN"، قدّر أن البرنامج النووي الإيراني تأخر لبضعة أشهر فقط، ما قدّم رواية مختلفة.
وترى "فورين بوليسي" أن "هذا الجدل لم يكن مبنيًا على معلومات واقعية، بل يعكس "ميلاً خطيرًا لدى المجتمع السياسي الأميركي لاستبدال التحليل الواقعي بالروايات السياسية والإعلامية".
وقائع موازية
وفق التحليل، فإن نتيجة هذا النهج هي خلق "وقائع موازية" تنبع من الأيديولوجيا والرؤية الذاتية للأفراد، ما يجعل بناء توافق سياسي حول التهديدات العالمية أمرًا مستحيلاً. وهذا يُعد خروجًا عن التقليد العريق في السياسة الخارجية الأميركية المستلهم من تعاليم السيناتور الجمهوري السابق، آرثر فاندنبرغ، الذي شدد على أهمية النقاش الواقعي لبناء إجماع في القضايا الدولية.
تكرار الكذبة حتى تُصدّق
أشارت المجلة إلى أن تصريحات ترامب، في أواخر يونيو (حزيران)، الماضي حول تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل، كانت مثالاً كلاسيكيًا على "استراتيجية دعائية" تعلمها من محاميه المثير للجدل، روي كوهن، الذي كان ينصحه بأن: "قل ما يخدمك، حتى لو لم يكن حقيقيًا، وكرّره حتى يصدقه الآخرون".
وأضافت: "حتى ترامب لم يكن بإمكانه أن يعلم فورًا مدى الضرر الذي لحق بالمواقع المستهدفة. في أحسن الأحوال، كان يعلم أن القنابل أصابت أهدافها، لكنه لم يكن على دراية بمدى دقة النتائج".
أما تسريب تقييم وكالة ""DIA فكان مجرد تقييم أولي منخفض الثقة من جهة استخباراتية واحدة، وليس موقفًا موحدًا من كامل المجتمع الاستخباراتي الأميركي.
لكن المعلومات الاستخباراتية، أظهرت لاحقًا، أن اليورانيوم المخصب الإيراني ربما دُفن في مواقع يصعب الوصول إليها حتى بعد التدمير الشديد، ما قد يؤدي إلى زيادة الوقت اللازم لاستعادة البرنامج النووي بشكل كبير.
وترى "فورين بوليسي" أن هذه المعلومات لم تلقَ اهتمامًا من النقاد أو الإعلاميين؛ لأنهم كانوا يسعون لتسجيل النقاط السياسية، لا لتحليل التهديد الفعلي، الذي يمثله البرنامج النووي الإيراني على أمن حلفاء أميركا في المنطقة.
روايتان متناقضتان بلا سياسة موحدة
يحذر التقرير من أن الولايات المتحدة تواجه الآن روايتين متناقضتين بشأن نتائج الهجمات الأخيرة:
* الأولى: تقول إن العملية كانت ناجحة ودمرت قدرة إيران النووية.
* الثانية: ترى أن العملية فشلت وزادت من احتمال سعي إيران لامتلاك سلاح نووي وانتقامها لاحقًا.
وكل رواية منهما تؤدي إلى مسار سياسي مختلف، لكن عدم وجود إجماع حول أي منهما يمنع واشنطن من تطوير استراتيجية متماسكة تجاه إيران.
وتضيف المجلة: "لا أحد من مؤيدي ترامب سأل نفسه: لماذا يقترح ترامب التفاوض إذا تم تدمير البرنامج الإيراني؟، ولا أحد من معارضيه يقول: إذا كان تقييم DIA صحيحًا وتأخر البرنامج لعامين، فهذا أمر إيجابي يتيح الوقت لوضع خطة جديدة".
السياسة الخارجية الأميركية بين التحليل والرواية
بحسب "فورين بوليسي"، كان في الماضي نقاشات جادة وغنية حول قضايا مثل نشر صواريخ نووية في أوروبا أو توسع الناتو. أما اليوم، فإن اهتمام الرأي العام يتركّز على الروايات الإعلامية وحروب "تويتر" (منصة إكس حاليًا)، وحتى الأسئلة المنطقية باتت تُهمّش.
وتشير المجلة، في ختام التقرير، إلى أن إصرار ترامب على رواية "تدمير البرنامج النووي الإيراني" رغم كل المعطيات المتناقضة، يُظهر أن السياسة الخارجية الناجحة تتطلب فرضيات دقيقة ومبنية على واقع حقيقي، لا على أوهام متكررة. مؤكدةً: "عندما تُبنى التحليلات على روايات، لا يعود هناك شيء اسمه واقع مشترك، وتغرق واشنطن في بحر من السرديات التي لا أساس لها".