هذه الأسئلة البسيطة ولكن الجذرية، تتكرر منذ عقود في أذهان ملايين الإيرانيين. نحن نشأنا على شعار "الموت". الموت لأميركا، الموت لإسرائيل، الموت للعدو. من صلاة الجمعة إلى كتب المناهج، من الإذاعة والتلفزيون الرسمي وتوابعهما إلى عقول أطفال المدارس الابتدائية. طوال هذه السنوات، لم يسأل أحد: أين هي الحياة؟ لماذا لا نتمنى الحياة لأحد؟
العداء.. محور البقاء
شعار "الموت لأميركا" ليس مجرد اعتراض سياسي؛ بل هو الركيزة الأساسية للخطاب الذي يبقي النظام الإيراني قائماً.
منذ اليوم التالي لثورة 1979، تحوّل هذا الشعار إلى أداة لترسيخ السلطة؛ أُحرقت الأعلام الأميركية، وامتلأت شاشات التلفزيون وجدران الشوارع بالغضب والكراهية، وأصبح مفهوم العداء لـ"الاستكبار" عنصراً محورياً في الدعاية الرسمية للنظام.
في عالم يُعرّف عبر "الموت"، لا يبقى مكان للحوار أو السلام أو التفاهم. العداء هو محور البقاء. تخيّل عالماً تستخدم فيه مجموعة، تمثّل شعب دولة ما ونظام حكمها، كل فرصة لتتمنى موتك، تحرق علم بلدك وتدوسه بالأقدام. هذا هو العالم الذي قدّمه النظام الإيراني للعالم باسم شعب إيران وبلد إيران وحكومته.
مقابلة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان مع تاكر كارلسون كانت أهم من مجرد حوار إعلامي عابر. بزشكيان ادّعى أن "شعار الموت لأميركا لا يعني الموت لشعب أميركا أو مسؤوليها، بل هو احتجاج على السياسات التدخلية الأميركية".
قد يقبل تاكر كارلسون، الإعلامي السابق في قناة "فوكس"، هذا الادعاء دون مساءلة، لكننا نعلم جيداً ما الذي يفعله بزشكيان ولماذا يكذب.
في الظاهر، كانت تصريحاته محاولة لتجميل صورة النظام؛ إشارة ضمنية لـ"تقيّة" دبلوماسية.
لكن في الواقع، تكشف هذه التصريحات التناقض داخل الرواية الرسمية للنظام. ففي اليوم نفسه، قام أنصار النظام عبر الإعلام الرسمي بإحراق علم أميركا، تحدثوا عن "الشيطان الأكبر" وصرخوا بنفس اللهجة القديمة: "الموت لأميركا".
وذلك رغم أنه لم يمضِ وقت طويل على تصريح المرشد الإيراني بشكل صريح: "شعار الموت لأميركا يعني الموت لترامب وصنّاع السياسات الأميركيين الآخرين".
مجرّد شعار!
منذ احتلال السفارة الأميركية عام 1979 وحتى اليوم، أصبح هذا الشعار وسيلة لبقاء النظام الإيراني؛ شعارٌ يصنع عدواً خارجياً لتحويل أنظار الرأي العام عن الأزمات الداخلية.
كلما طالب الناس بالمحاسبة، عاد هذا الشعار ليُطلق في وجوههم: العدو هناك، وراء البحر، وليس هنا.
لكن الشعب الإيراني التوّاق للحرية اختار طريقاً آخر. من الحركة الخضراء إلى احتجاجات نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 وشعار "المرأة، الحياة، الحرية"، لم يكن شعار الشارع "الموت لأميركا"، بل "الموت للدكتاتور".
وفي كثير من التظاهرات، رفض المتظاهرون حتى الدوس على علم أميركا، لأنهم أدركوا أن العدو الحقيقي ليس في الضفة الأخرى من الحدود، بل في قلب هذا النظام الحاكم نفسه؛ النظام الذي انتزع الحياة من الناس.
رؤساء الجمهورية ومشروع تخفيف الشعار
لم يكن مسعود بزشكيان أول رئيسٍ للحكومة في النظام الإيراني يحاول خداع الجمهور خارج البلاد.
على مدى العقود الأربعة الماضية، حاول رؤساء الجمهورية المتعاقبون تليين هذا الشعار أو اختراع معنى جديد له. فقد زعم هاشمي رفسنجاني أن الخميني كان موافقًا على إلغاء الشعار، لكن هذه الرواية نفاها الجهاز الأمني.
تحدّث محمد خاتمي عن "حوار الحضارات"، لكن مكبرات الصوت الرسمية استمرت في ترديد شعار الموت. وقال حسن روحاني إن لا مشكلة لدى النظام مع الشعب الأميركي، فقُوبل بموجة قمع شديدة. والآن يسلك بزشكيان الطريق نفسه، لكن روايته لا تستند إلى دعم مؤسسي ولا تملك شرعية سياسية.
تصريحاته تنتمي إلى التيار الإصلاحي داخل النظام، وهو تيار لم يعد له موطئ قدم في هيكل السلطة. ربما يصفها البعض داخل النظام بـ"البصيرة"، بدافع القلق، لكن الحقيقة أن بزشكيان لم يكن حتى الآن سوى منفّذ لإرادة المرشد الإيراني، لا أكثر.
سارعت وسائل الإعلام والشخصيات المقربة من النظام إلى مهاجمة بزشكيان. سيناريو متكرر: أحد مسؤولي النظام يتبنّى موقفًا أكثر ليبرالية – عادةً صحيفة "جوان" هي من تبدأ بالدفاع – فتأتي الردود العنيفة من نفس الوجوه المعروفة.
صحيفة "كيهان" وصفته بـ"المخدوع"، ووكالات الأنباء التابعة للحرس الثوري اتّهمته بالتخلي عن "أدبيات الشهادة".
أما حميد رسائي فتهكّم قائلاً إنه يصلح للخطبة والزواج لا للرئاسة. بعض المستخدمين من أنصار النظام أطلقوا حملة لعزله. عدد محدود من الشخصيات، مثل عطا الله مهاجراني، دافع عنه واعتبر تصريحاته "حاملة لرسالة سلام".
مطرقة ترامب تهوي فجأة!
وفي هذه الأثناء، صرّح دونالد ترامب أثناء عشاء مع بنيامين نتنياهو قائلاً: "على النظام الإيراني أن يكفّ عن ترديد شعاري الموت لأميركا والموت لإسرائيل. يجب التخلي عن هذه اللغة".
للمرة الأولى، لم يأتِ مطلب التخلي عن شعار "الموت لأميركا" و"الموت لإسرائيل" من محللين سياسيين أو وسائل إعلام، بل جاء صريحًا على لسان رئيس أميركي. والرسالة الضمنية واضحة: إذا كنتم تريدون التفاوض، فعليكم أولًا أن تتوقفوا عن ترديد هذه الشعارات.
إذا كان هذا شرط ترامب لاستئناف المفاوضات، فإن التفاوض يصبح عمليًا عرضًا سياسيًا من الطرفين. النظام الإيراني يشتري الوقت، وترامب لا أحد يعلم ما الذي يدور في رأسه. لقد أثبت مرارًا أنه لا يمكن التنبؤ به.
الجيل الجديد في إيران لم يعد يؤمن بهذه الشعارات. الناس في الشوارع هتفوا بأنهم تجاوزوا الموت، ويبحثون عن الحياة، والرفاه، والحرية. الإيرانيون سئموا من الشعارات، ومن الكراهية، ومن أيديولوجيا الموت. هذه الشعارات لم تجلب لهم سوى العقوبات، والفقر، وحروب لا طائل منها.
تلك الطفلة، وذلك المتظاهر، وذلك الجيل المرهَق، لا يطلبون سوى شيء بسيط وبديهي: الحياة.
وربما يكون قد حان الآن، أكثر من أي وقت مضى، أن نوجّه هذا السؤال للنظام الإيراني: لماذا لا تزال الحياة، في بلدٍ بهذه الثروات والتاريخ، حلمًا بعيدًا لملايين الإيرانيين؟
"الموت لأميركا".. ركيزة النظام الأيديولوجية
هل يتراجع النظام الإيراني حقًا عن ركيزته الأيديولوجية المتمثلة في شعار "الموت لأميركا"؟ أم أن الأمر لا يتعدى كونه تكتيكًا مؤقتًا لعبور ضغوط اللحظة، والعزلة الإقليمية، والأزمات الداخلية؟
إذا كان بزشكيان قد تكلّم بضوء أخضر من النظام، فهذه إشارة إلى تراجع رسمي. وإن لم يكن كذلك، فهي علامة على الانقسام وفقدان رئيس الجمهورية للسلطة.
لقد أظهر تاريخ النظام الإيراني أن التراجع عن الشعارات يحدث إما تحت ضغط الشارع أو بسبب أزمات خارجية. وربما هذه المرة يكون كلا العاملين حاضرين.
فهل تراجع النظام خوفًا من الانهيار؟ وهل آن الأوان ليدفن شعار "الموت لأميركا"؟ والسؤال الأهم: هل يستطيع النظام الإيراني أن يستمر في الوجود من دون هذا الشعار؟