"الإنجاب" وسيلة لـ"إنقاذ الوطن".. جسد المرأة في إيران تحت حصار دعاية النظام

نعيمة دوستدار
نعيمة دوستدار

صحافية ومحللة اجتماعية

في زمن تتقلّص فيه موائد الشعب الإيراني، وتستمر البطالة وانعدام الأمن الوظيفي، وترتفع معدلات الهجرة بشكل مقلق، قررت السلطات الحاكمة أن تبحث عن حل للأزمة السكانية ليس في الإصلاحات الاجتماعية أو الاقتصادية، بل في نصب لافتات تندد، بطريقة عاطفية، بـ"منع الحمل".

في إحدى اللافتات الإعلانية التي نُصبت مؤخرًا في مترو طهران، كُتبت جملة تقول: "الممرضة التي عالجت جروح أمي، أنتِ سيدة عظيمة". ووُضعت فوق هذه الجملة صورة غطاء أو ستارة، وكُتب تحتها: "الممرضة التي لم تُولد".

بغض النظر عن غموض صورة الغطاء أو الستارة التي لا يتضح ماهيتها، تحمل هذه الجملة القصيرة رواية ثقيلة: "إذا منعتِ الإنجاب، فأنتِ تمنعين ظهور أبطال المستقبل".

مثال آخر هو صورة ورقة محترقة كُتب عليها: "رجل الإطفاء الذي أنقذ حياة ابني، أنت رجل عظيم". وكُتب تحتها: "رجل الإطفاء الذي لم يُولد".

هذه الصور، أكثر من كونها دعوة للإنجاب، هي محاولة لإثارة شعور بالذنب وتأنيب الضمير لدى أولئك الذين لا يرغبون أو لا يستطيعون إنجاب الأطفال.

لكن هذه الرسالة الصريحة ليست مجرد إعلان بسيط، بل هي خلاصة سياسات سكانية فاشلة، وأزمة معنى في النظام الحاكم، ومحاولة متكررة للسيطرة على جسد المرأة وقراراتها.

الهرم السكاني المقلوب: رد فعل دعائي

وفقًا لأحدث تقديرات مركز الإحصاء الإيراني، بلغ عدد سكان البلاد في عام 2024 حوالي 86 مليون نسمة، وانخفض معدل الخصوبة الكلي إلى مستوى مقلق يبلغ 1.6 طفل لكل امرأة، وهو رقم أقل بكثير من معدل استبدال السكان (2.1)، مما يؤدي إلى انخفاض مستمر في عدد المواليد.

تُظهر الإحصاءات الرسمية لمنظمة التسجيل المدني أن عدد المواليد المسجلة في عام واحد انخفض لأول مرة في التاريخ المعاصر إلى أقل من مليون.

في الوقت نفسه، يشكل 22.8 في المائة فقط من سكان البلاد الفئة العمرية من صفر إلى 14 عامًا، بينما ارتفعت نسبة السكان المسنين (65 عامًا فأكثر) إلى أكثر من 5.7 في المائة.

هذا الاتجاه هو مؤشر واضح على تشكّل هرم سكاني مقلوب في إيران، حيث تتضاءل قاعدة القوى العاملة، ويقع عبء دعم السكان المسنين على أكتاف جيل شاب يعاني بالفعل من انعدام الأمن المعيشي والخوف من المستقبل.

في مثل هذا السياق، يبدو إصرار النظام على حلول رمزية مثل الحملات الإعلانية المناهضة لمنع الحمل أكثر بعداً عن الواقع وخطورة في الوقت ذاته.

بدلاً من الاستثمار في سياسات فعالة لتشجيع الإنجاب، مثل توفير الأمن الوظيفي، والخدمات الصحية المجانية، والسكن، والتعليم، لجأ النظام إلى الأداة الأبسط والأقل تكلفة: خلق خطاب "ذنب المنع" وتقديس الإنجاب.

لا توجد أي جهود لزيادة الوصول إلى المرافق أو تشجيع الأفراد من خلال تقديم الإمكانيات، بل إن الأولوية تُعطى فقط لتعزيز شعور الذنب.

الجسد الأنثوي: ساحة معركة السياسات غير الفعالة

وفقًا للأدبيات النسوية، كان التحكم بجسد النساء عبر التاريخ دائمًا إحدى أدوات الأنظمة السلطوية للسيطرة على المجتمع. والآن، تشهد مجتمعات مختلفة جهودًا جديدة لاستعادة حق النساء في اتخاذ القرارات بشأن أجسادهن، من اللواتي اخترن عدم الإنجاب لأسباب اقتصادية أو اجتماعية أو حتى شخصية.

في هذه الحملات، يُصوَّر منع الحمل ليس كأداة للتوعية، بل كعائق أمام ولادة "الأبطال الوطنيين".

المرأة التي تقرر عدم الحمل تُصوَّر، في عين هذه الرواية، كمن تحرم المجتمع من طبيب أو معلم أو ممرضة المستقبل.

هذا النوع من السرد، باستخدام أدوات عاطفية، يحاول تحويل القرار الشخصي إلى "جريمة ثقافية".

من الإجهاض إلى إلغاء وسائل منع الحمل

خلال السنوات الأخيرة، شملت سياسات النظام السكانية إلغاء اللولب الرحمي، وحبوب منع الحمل، وعمليات ربط الأنابيب، واستئصال الأسهر من نظام الرعاية الصحية العامة، بالإضافة إلى تجريم الإجهاض.

هذه السياسات، التي تشبه "الحرمان" أكثر من "التشجيع"، قيدت في الواقع وصول النساء إلى الرعاية الإنجابية، وفي الوقت نفسه، حولت الحملات الثقافية الإنجاب إلى التزام أخلاقي وديني وحتى وطني.

روايات جديدة: الإنجاب كتعبير عن الوطنية

أحد أخطر جوانب هذه الرواية الجديدة هو مساواة الحمل بـ"إنقاذ الوطن".

تُصوَّر المرأة الحامل كأم المستقبل و"الأبطال الوطنيين"، بينما تُعتبر المرأة التي تمنع الحمل، في أحسن الأحوال، غير مسؤولة، وفي أسوأ الأحوال، خائنة للجيل القادم.

في ظل معاناة الجيل الشاب في إيران من عدم الاستقرار، والفقر، وأزمة الأمل، وانهيار المؤسسات الداعمة، يسعى النظام إلى تحويل أجساد النساء إلى حصون للدفاع عن المستقبل من خلال حيل إعلانية. وكأن إنجاب الأطفال يحل محل إنتاج السياسة، أو العدالة، أو الرفاهية.

في حين أن قرار عدم الإنجاب بالنسبة للكثير من النساء والعائلات هو احتجاج على الوضع الراهن، يحاول النظام، بتقليص هذا القرار إلى مسألة أخلاقية وفردية، نزع الطابع السياسي عنه.

في الواقع، من خلال الهجوم على وسائل منع الحمل، يسعى "النظام" إلى إزالة الاحتجاج الاجتماعي من لغة الجسد.

توليد الأزمة في قلب السياسات المناهضة للحرية

حملة مترو طهران، رغم بساطتها، هي رمز بارز لاستراتيجية النظام الحاكم في مواجهة الأزمات التي صنعها بنفسه: إلغاء الاختيار، وتقليص الفردية، وتقديس الطاعة. لكن، من خلال استعراض دروس العقود الماضية، يتضح أن لا إعلان ولا حملة عاطفية يمكن أن تحل محل السياسات المستنيرة، والعدالة الاجتماعية، وتطلع واضح للحياة.

المجتمع الذي يؤدي الإنجاب فيه إلى نقل الفقر، وانعدام الأمن، وإقصاء النساء من المشاركة الاجتماعية عبر الأجيال، لن يظل شابًا فحسب، بل سينحدر بسرعة نحو الهاوية، ولن تتمكن أي "ممرضة لم تُولد" من مساعدة هذا المجتمع على علاج هذه الأزمة.